"جبران هداية"، والحزن النبيل في اللوحة التشكيلية

محمد علو

حالة من التأمل والسكينة تجعلك تتحد مع لوحاته الفنية لتجعلك تبحث في خلفيات واقع جسّده الفنان "جبران هداية"، فنراه فنانا يبحث في عناصر لايملكها الواقع ويرى أنها لا يجب أن تظهر في هذا الواقع، راكنا كل ذلك في ما يسميه "الحزن النبيل".

موقع "المفكرة الثقافية" التقى الفنان "جبران هداية" وكان الحوار التالي:

* تشكل الواقعية العنوان الأوحد لمعظم لوحاتك، عن ماذا تبحث في تلك الواقعية؟

** تمسكي بالواقعية يعود لقناعتي بأن "الواقع هو مصدر الإبداع"، فأنا بدون هذا الواقع لا أستطيع حتى أن أحلم، ولكن القول إن أعمالي واقعية محضة لا أراه صحيحا لأنني أؤمن بتداخل المدارس الفنية في اللوحة الواحدة، وفي أعمالي تجد هذا التداخل الذي تمتزج فيه عدة مدارس كالواقعية والسريالية، الرومانسية، وفي كثير من الحالات يكون المخطط الثاني حالة من التجريد. أما بحثي في واقعيتي كما تقول فإنها تعمل على إعادة بناء هذا الواقع، فأنا أرى أن هذا الواقع بحاجة إلى حذف بعض العناصر التي لا ضرورة لها، وإضافة بعض العناصر لأهميتها في تشكيل اللوحة.

* نتذكر أسماء من الساحة الفنية ربما كانت قريبة منك كـ "نبيه قطاية"، "لؤي كيالي"، "فاتح المدرس"، هل من ارتباط ما جمعك مع هذه الأسماء؟

** الناقد والفنان والمربي "نبيه قطاية" بالرغم من مرور عدة سنوات على رحيله لازلت أراه في أحلامي حياً، علاقتي به امتدت لأكثر من ربع قرن، ويكاد يكون الصديق الوحيد في حياتي، وكانت أحاديثنا بعد السهرة تمتد حتى الصباح، اعتبرت رحيله اختفاء أهم عناصر الدهشة في حياتي.

معرفتي بـ "لؤي كيالي" كانت عن طريق "نبيه قطاية" وهي علاقة ودية ضمن لقاءات نادرة. أما "فاتح المدرس" فتمت معرفتي به عن طريق أحد الأقارب وكان عمري حينها لا يتجاوز الثامنة، أعطاني طبقا من الكرتون المزيت وطلب مني أن أريه الأعمال بعد رسمها، وبذلك كان أول من وجهني في طفولتي الفنية، وشاء الله أن يكون أستاذي في كلية الفنون الجميلة بدمشق، وفيما بعد أستاذا وصديقا.

 

* ثنائية "الفنان واللوحة" كيف تتجسد عند الفنان "جبران هداية"؟

** وسائل التعبير ثلاث هي الكلمة، الموسيقى، الخط واللون (اللوحة). للحديث عن الفنان التشكيلي وعلاقته بلوحته يتطلب مني أن أعرف كلاً من الفنان ولوحته. عندما يتمكن الفنان من أدواته والسيطرة عليها يصبح رساما، ولكي يستحق لقب فنان يجب أن يمتلك الحساسية والرؤية الفنية من هنا قولي "الفن يبدأ بعد إتقان المهنة". أما اللوحة فهي المساحة البيضاء التي تسمح للفنان من خلال سيطرته على لغته التشكيلية أن يترجم الواقع المرئي كما يراه هو. بهذا المعنى يكون الفنان واللوحة شيئا واحد، لا بل أن اللوحة تكشف لنا رؤية الفنان للواقع المرئي وتخبرنا عن مشاعر وأحاسيس لا يبوح بها إلا لهذا الصديق.

* التركيز على قيم النور وأهميته البصرية والنفسية في اللوحة من أين تستمدها  وماذا تريد منها؟

** أريد أن أميز بين كلمة الضوء وكلمة النور، فالضوء يسقط عل الأجسام فنرى تدرجات لونية متعددة، والأجسام تسقط ظلالا تعبر عن حجمها فهناك الظل والظليل، وهذا ما يسمى بالعملية الفيزيائية لانتشار الضوء. أما النور فيقصد منه الجانب النفسي والروحي الذي ينشر جوا من الفراسة.

في أعمالي أعتمد قوانين الضوء، لكني في كثير من الحالات أبتعد عنها، أو لنقل أتجاوزها معتمدا على إضاءات لا تحصل في الواقع، وذلك من أجل تحقيق المناخ الذي يساعدني في التعرف على روح الأشياء من خلال جسدها.

* وماذا عن الضوء الداخلي الذي يختزنه وجدانك، وكيف ترك تأثيره على العمل التشكيلي؟

** هنا أفضل استخدام كلمة النور بدل الضوء. هذا النور له علاقة بطفولتي.. بغرفتي، حينما كنت أتأمل "لمبة الكاز" وهي تسقط ضوئها الضعيف على سجادة شعبية عُلقت على الجدران، كنت أتأمل هذا المشهد حتى تغفو عيناني وأنام. هذا الضوء له علاقة بضوء الشموع في الأماكن المقدسة. من هنا فإن استخدامي للضوء لا يعتمد على الواقع، بل يعتمد على الذاكرة الواقعية التي يختلط فيها الواقع بالخيال وبالرغبات الكامنة في عالمي الداخلي، وهذا ما يظهر في أعمالي بشكل واضح.

* تبرز "الوجوه" في حالتها التأملية الهادئة عنصرا مميزا في لوحاتك، وهنا نسأل عن الحالة الإنسانية التي تركن خلف تلك الوجوه؟

** أعتقد أن تطور الإنسان الحقيقي بدأ عندما بدأ الإنسان يتأمل هذا الكون العجيب الغريب، وقد بدأ التأمل هنا مع النساك. أنا حين أرسم أتوقف عن الرسم لأتأمل، أستمر في التأمل حتى أجد حافزا لمتابعة الرسم من جديد، أضع أشخاصي أيضا في اللوحة في حالة تأمل، ولكن هذا التأمل ليس مجاني إنه يتخطى الجسد ليتحاور مع الروح.

* يرى الفنان التشكيلي "سعد يكن" أن ما يميز لوحاتك هو التكنيك المستخدم في رسم اللوحة، ماذا تحدثنا عن هذا التكنيك؟

** هناك مادة تدرس وهي "تقنية المواد" ولكن يبقى البحث مفتوحا ولا ينتهي، ويخطئ من يعتقد أن التكنيك بذاته يستطيع أن يقدم عملا فنيا، من الضروري أن يتعرف الفنان ويبحث باستمرار عن تجارب جديدة في مجال التقنية. ومن الضروري أن يدرك أن مهمة التكنيك هي إيجاد المناخ المناسب للوحة التي ينوي رسمها. وأنا بدوري أبحث باستمرار عن المناخ المناسب لأعمالي. ليس هناك تقنية واحدة لأتحدث عنها، هناك كم هائل من التجارب من أجل الوصول إلى المناخ المناسب.

 

* ماذا عن وجود الهدوء والسكينة في لوحاتك. هل هذا يرتبط بشخصية "جبران هداية" أم برؤيته التشكيلية لقيم اللوحة؟

** الهدوء والسكينة موجودان في المخطط الثاني للوحة، أي في الخلفية، أما المخطط الأول فهناك التأمل والحزن النبيل، وأنا بدوري أشعر أن التأمل والحزن النبيل يحق لهما الارتياح على خلفية هادئة وساكنة.

لقد تأثرت بإحدى مراحل الرسم عند "بيكاسو" وتسمى "المرحلة الزقاء" وهذه المرحلة قريبة من قناعاتي في الفن، فهي تعتمد الخط أساسا في تشكيل اللوحة، وتأتي الألوان باردة وهادئة منسجمة مع التعبير في شخوص اللوحة لدي.

 

بقي أن نذكرأن الفنان "جبران هداية" مواليد   "رأس العين"  عام 1946.

- درس التصوير في كلية الفنون بدمشق و تخرج منها بدرجة امتياز شرف عام 1979.

- درس الفنون في مركز الفنون التشكيلية و أكاديمية صاريان بحلب.

- عمل مدرساً لمادة التصوير في معهد إعداد المدرسين بحلب.

- شارك في معظم المعارض الجماعية في سوريا و الدول الخارجية.

- متخصص في تصوير الأيقونات.

- افتتح صالة أكاد للفنون الجميلة بحلب.

- عضو نقابة الفنون الجميلة و اتحاد التشكيلين العرب.

- طبع له ملصق إعلاني كممثل للفن السوري.

- مدرس متقاعد ، ومتفرغ حاليا للعمل الفني.