"محمد غنوم": الحروفية تدخلني في محراب عبادة "الله"

علاء الجمّال

 

"محمد غنوم" فنان تشكيلي سوري، عرف عنه الإصرار والبراعة في تشكيل اللوحة الحروفية، بصياغة بصرية حساسة، يحكم فيها استخدام اللون والعبور إلى مكنون الحرف وبعده الروحي،  ecalزار الفنان "محمد غنوم" بمرسمه في "دمشق"، وأجرى معه هذا الحوارمستوضحاً خلاله سمات الحرف العربي وخصوصيته في التشكيل: 

*الخط العربي له أوجه ورقيه في التاريخ الإسلامي، حبذا لو تحدثنا عن هذا الجانب؟

**كل شعب من الشعوب له ما يميزه بين فنونه، وله جانب يهتم به أكثر من بقية الجوانب، ونحن في مجال فنونا البصرية كان هناك اهتمام متميز بفن الخط العربي نبع من البنية الفلسفية للنظر في الفنون البصرية، فالإنسان العربي منذ القدم له اهتمام بما هو مطلق ونظرة لا تكترث للماديات والمحسوسات… بقدر ما تهتم بالأشياء التي هي أكثر تجريداً لأن البيئة التي عاش فيها الإنسان العربي "بادية" يمتدّ بها النظر إلى اللامحدود، وهو في نفس الوقت عاش بها متأملاً، فنمت لديه النظرة إلى المجردات أكثر من الأشياء المادية المحسوسة… وبعد مجيء الإسلام تعمقت تلك النظرة ولاسيما القرآن الكريم الذي شكل دستور الأمة والدين، وترافق ذلك باهتمام كبير بكتابة آيات القرآن بأبهى وأجمل صورة، مما أدى إلى نهضة الخط العربي الإسلامي، فكانت المدارس الخطية وبدأت منذ مراحلها الأولى في إتباع أسلوبين: الأول يعتمد الاستقامات والزوايا الحادة… فكان الأسلوب الجاف والمستقيم، فاندرجت كل أنواع الخط الكوفي فيما بعد، والثاني الأسلوب اللين الذي ظهرت فيه الحروف ملتفة ومتعانقة، حيث كتبت بأداة بسيطة بيئية المنشأ، وهي "القصبة" ومع اهتمام العرب والمسلمين بالخط العربي باتت الصورة الجمالية له أكثر تكاملاً عندما تعشق شعوب اعتنقت الإسلام كالفرس والأكراد وشعوب "أسيا الوسطى" هذا الفن النبيل الذي بات له فيما بعد مدارس خطية نموذجية قاعدتها وأساسها الثقافة البصرية لتلك الشعوب.

 

         

* ما تصورك للحرف العربي،  كمشهد بصري في اللوحة؟

** كان لا بدّ للخط العربي بعد المراحل التي مرّ بها وحددت كلاسيكيته، وأصبح له خطوطاً موزونة بعدد النقاط  التي بينت وأوضحت عرض وامتداد والتفاف الحرف من أن يلقى نظرة  متطورة أكثر من الخطاط تتواءم مع العصر، وهذه النظرة استدعته إلى البحث في جوانب تفجير

الطاقات الجمالية له، التي لم تكن تكتشف وتدرس عندما كان الخطاط قاعدياً كلاسيكياً همه اتباع القواعد والأوزان… من هنا نشأ الاتجاه الحرفي وهو في تسميته قاصر على أن يعطي المضمون والمفهوم الدقيق لهذا التطور، ولكني أستخدمه حتى يكون سهلاً على القارئ أن يعلم أن جميع الفنون البصرية التي تعتمد في بنيانها وتكوينها على تشكيل الحرف العربي سواء كان نحتاً أم رسماً أم تصويراً أم حفراً، هي طاقة إبداعية مرجعيتها الإيمان، والمبدع الذي يعتمد الحرف كمفردة تشكيلية في لوحته مؤمن بتلك الطاقة، وبما في بنية الحرف  من تشكيلات جعلته يحاور هذا الفن ويوصله إلى المشاهد، فتجده أحياناً يبني تكوينه عليه، وأحياناً يترك القراءة للكلمات… وأحياناً أخرى يغيبها، فالحروفية مجال غير مقتصر على العرب بل ظهر بقوة عند الشعوب المسلمة الأخرى، فإننا نشهد في "إيران" اتجاهات عديدة للفن الحروفي وليس مستغرباً أن نرى فنانين غربيين من "أوروبا وأمريكيا والشرق الأقصى" وجدوا أنفسهم بهذا التشكيل.

*كثيراً ما تركز على تشكيل الحرف العربي في اللوحة، ما العمق الذي تبحث عنه؟

**عندما نقف أمام فن عظيم مثل الخط العربي الذي يعد العمود الفقري لشخصيتنا العربي التشكيلية، لن يكون هناك تمييز أو فصل بين الشكل والمضمون، لنأخذ مثالاً حرف النون المكون من ثلاثة أرباع الدائرة والمرتكز في وسطه على نقطة تميزه عن الأحرف الأخرى، لا يمكننا على الإطلاق أن ننظر إلى تلك الدائرة الناقصة دون أن تكون تداعيات المضمون مترافقة مع ذاك الحرف،  الذي أقسم به الخالق عندما قال: «نون والقلم ما يسطرون»، وهنا لا يمكننا إلا أن نحس وندرك أنه لخص وأوجز هذا الكون في هذا الحرف، فلذلك عندما أرسمه وأجمله في عملي التشكيلي أشعر أنني دخلت في محراب عباد "الله"،  فالشكل والمضمون في الخط العربي لا فرق أو فصل بينهما. 

 

*ما قراءتك للدلالات اللونية، التي لا تخلو من التضاد في عملك؟ 

**لطالما كتبت الحروف بالحبر الأسود على السطح الأبيض، والآن عندما شكلنا أعمالنا الفنية استخدمنا كل التقنيات المبتكرة من ألوان زيتية ومائية وإكريليك… فلم يعد هناك اقتصار على اللونين الأبيض والأسود، فظهرت لدينا نتائج وصور باهرة وجميلة في تشكيل الحروف والكلمات، وهي برأيي تشكل إضافة غاية في الأهمية لهذا الفن، والألوان بدرجاتها وسحرها أظهرت عمق وجمال الحرف كمفردة بصرية في التشكيل.      

ماذا يوحي إليك مدّ الحروف على النهايات الدائرية المتداخلة في لوحاتك ؟

**في لوحتي أتحدث عن موسيقى الحروف، أقصد بها تلك الحركية التي تجعل من الحرف عنصراً متحركاً علماً أنه ساكن، وتجعلني أنهي التكوينات التي بني عليها تشكيل اللوحة، وهي عائدة إلى نفس المنطلق لست أدعي أني مكتشف تلك العظمة، فعندما نتحدث عن حرف النون نحلل فلسفة تجعل من هذا الكون الذي انطلق من نقطة حددها الخالق هي نفس النقطة التي ستعود إليها، فالكون الفسيح الواسع يبدأ من نقطة ثم يعود إليها، لتكون البداية والمرجع… هذا الإيحاء الذي تتلخص به الحروف في عملي التشكيلي.  

*متى يمكننا القول إن اللوحة الحروفية متكاملة الأبعاد؟

** ليس هناك لوحة في العالم متكاملة الأبعاد لا في السابق ولن يكون في المستقبل، هناك بحث يجتهد عليه الفنان ليصل به إلى مرحلة ما، ويبقى اجتهاده بين أمرين تقدم أو تراجع، لكل عمل فني فئة تتذوقه فقد تحبه أو لا يتفاعل معه، والكون يتسع لكل الآراء والأذواق والثقافات… لكن في النهاية ليس هناك عملاً متكامل لأن التكامل محصور بالخالق فقط، ولن يمكننا مهما بلغنا من العلم والثقافة والدراية والإبداع أن نحقق عملاً متكاملاًلكننا نصبو ونهدف إلى عمل أكثر تميزاً يحمل هويتنا ويظهر اعتزازنا، ويوضح افتخارنا، ويشهرنا بين الشعوب الأخرى…   

*البعض يقول: «إن اللوحة الحروفية يجب أن تكون فيها الحروف غير مقروءة وبتشكيل عفوي يعود إلى ذائقة الفنان»، ما رأيك بذلك؟

** سئلت هذا السؤال منذ ثلاثين عاماً ومازلت أُسئل، وما زلت أدافع عن هذا التوجه الذي أقوم به في اللوحة المعتمدة على الحرف العربي وكل يوم أزداد اقتناعاَ أن قراءة الكلمة أو الجملة واضحة أو غير واضحة لا يخفف على الإطلاق من أهميتها التشكيلية، وليس صحيحاً ذاك التوجه الذي يخجل من قراءة تلك الكلمات والحروف، وكأن هناك عيب في أن تكون القراءة التشكيلية والأديبة معاً، فمن الذي سنّ تلك القوانين التي حرمت قراءة الجملة أو الكلمة في العمل الفني،  ومن الذي جعل تلك القراءة خطيئة يرتكبها الفنان ولا يستطيع التكفير عنها إلا عندما يكون عمله الفني غير مقروء، ولا يعتمد إلا على الترميز والإيحاء بأن هناك حرف عربي أو كلمة يجب أن تحطم ملامحها حتى تنال استحساناً، أقول بإيجاز: ليس هناك ما هو معد مسبقاً لنتذوق ونحس ونسعد… ليس هناك قوانين بل صيرورة وممارسة في الفن وكل مجالات الحياة. 

*عندما يستند الفنان على المنطق العقلاني في تشكيله للوحة الحروفية، هل يفقد العمل لسمات التأثير والجذب البصري برأيك؟ 

**اللغة البصرية لا تأتي بالمصادفة، لأنها مستندة على أرضية ثقافية وفكر عميق، الفن التشكيلي فكر وليس خطوطاً وألواناً تأتي بها اليد عبثاً، وليس كما يشاع أنه ابن اللحظة غير المستند على أي شيء، الفن عمل عقلي بامتياز، العقل صنع المعجزات ولا يمكن أن ينفصل عن العاطفة والحس والشعور، الإبداع عمل فكري وتأتي العاطفة لتجعله يعيش حياة دائمة وألقاً مستمراً.

 

*قال الفنان التشكيلي "سعيد نصري" في أحد محاوراته: «أن لوحة الخط العربي تعتبر فناً تجريديّاً بحت»، من جانبك ماذا تقول؟

** الخط العربي هو فن تجريدي بحت، لأن الحروف ليست أشكالاً تشبيهيه، ليست يد أو وجه أو عين… إنها أشكال تجريدية، قد توحي بصعودها وهبوطها والتفافها وعناقها، بما صنعته الكائنات من بشر وشجر وحيوان… ، عندما تدرس مراحل نشوء الكتابة تبدأ بالمرحلة الصورية عندما عبر الإنسان عن رغباته برسم الصور على جدران الكهوف، وبعدها انتقل إلى مراحل اختلف حولها الباحثون من رمزية وصوتية ومقطعية… هكذا حتى الوصول إلى اكتشاف الأبجدية التي اعتمدت على الشكل التجريدي، كمثال الحروف المسمارية المكتشفة في حضارة "أوغاريت"، ولطالما جهد الخطاط العربي في تشكيل الحروف بأبهى صورة ممكنة. 

حدس جمالي

في إحدى المعارض الشخصية للفنان، قال الناقد التشكيلي السوري "طارق الشريف": «بدأ الفنان "محمد غنوم" رحلته مع الخط العربي من عملية التزاوج ما بين تكوين الحرف واللون، ففي البداية استخدم الحروف على أساس حرف منفرد يتكرر ويكتب ويلون، ويخلق إيقاعات لونية مختلفة ومعبرة، هكذا اكتشف الفنان أن الحرف قيمة فنية بحد ذاته وذلك من جمالية تأليفه، ورأى أن تكراره مع الإضافات اللونية سوف يجعل اللوحة ذات أهمية تجريدية و تشكيلية».

وقال عنه الراحل "فاتح المدرس" يوماً: «إن "محمد غنوم" في تجربته الجادة في مجال التشكيل العربي، يقف في مقدمة الفنانين العالميين لأجل الروعة الإبداعية عند العرب، وإن الموسيقى العميقة في عمله الفني حقيقة تجعلنا نقف باحترام أمام هذا الحدس الجمالي الرائع». 

 

ببلوغرافيا الفنان

ـ ولد الدكتور "محمد غنوم" في " دمشق " عام /1949/. 

ـ تخرج في كلية الفنون الجميلة ـ جامعة "دمشق" قسم "التصميم الداخلي". 

ـ دكتوراه فلسفة في علوم الفن ـ "طشقند" عام /1992/.

ـ عضو المكتب التنفيذي لنقابة الفنون الجميلة حتى عام /2000/.

ـ موجه أول للتربية الفنية في "سورية".

ـ رئيس جمعية أصدقاء الفن في "دمشق" من عام /1996/.

ـ مدرس محاضر في كلية الهندسة المعمارية ـ جامعة "دمشق".

ـ أقام /17/ معرضاً شخصياً  في عدد من المدن السورية، و/37/ معرضاً في دول عربية وأجنبية… حاصل خلال مسيرته على جوائز عديدة، أهمها الجائزة الأولى مهرجان الخط العربي ـ "طهران"، والجائزة الأولى للخط و الموسيقى ـ "فرنسا".