محمود شاهين: الفن التشكيلي مسألة ربانية يحُسّها الفنان الحقيقي

فضاء اللون في سكون البصر ونزهة الخيال

 

  علاء الجمّال    

 

يدخلنا الفنان التشكيلي الفلسطيني"محمود شاهين" إلى معابر التاريخ والأسطورة والتراث، له في الثقافات الأخرى اطلاع ودراسات، باحث في الفلسفات القديمة، عمل على تأسيس منهج نموذجي في الفن التشكيلي، فرض خلاله حضوراً عالمياً، كما أنه جمع ترفه الأدبي مع خطوطه اللونية في التشكيل، وجعل من أعماله مصدراً للإيحاءات والتساؤل، ومرجعاً لمفرداته في التأمل والوصف.      

للتعرف إلى مكنيات الفنان "شاهين"، زرناهفي مرسمه بمنطقة "القيمرية" "بدمشق" القديمة في 4/12/2008، وكان معه هذا الحوار: 

ــ دعنا في البداية نتحدث عن الكينونة المعرفية في عملك التشكيلي؟

تستند معرفتي إلى ثقافات عديدة، فأنا مهتم بديانات وأساطير البشرية، إضافة إلى اهتمامي بآدابها وفنونها وفلسفاتها.. وإلى حد ما عاداتها وبعض تقاليدها. وحين أرسم أكاد لا أفكر، كي أعكس مخزوني الثقافي بشكل أقرب إلى العفوي والفطري.

 ــ هل استطعت التوفيق بينعالمي "الرسم والكتابة" ؟

لم أتمكن من التوفيق بين الأدب والرسم، فما أن تحولت إلى الرسم حتى توقفت عن الكتابة إلا ما ندر، كما أن كتابة الرواية بشكل خاص مسألة صعبة جداً وليست سهلة كالرسم من وجهة نظري طبعاً، وقد تختلف المسألة إذا ما تعلق الأمر بالشعر، لأن كتابة قصيدة ما لا يتطلب زمناً طويلاً ويمكن للمرء أن يمارس الشعر والرسم معاً، ولذلك تجد أن معظم ما كتبته بعد تحولي للرسم ينتمي إلى الشعر والخاطرة.

ــ اختفيت من عالم الأدب والصحافة منذ /17/ عاماً تقريباً، وهي نفس المدّة التي بدأت فيها الرسم، فهل الفن التشكيلي هو السبب في إبعادك عن تلك الأوساط حتى أن معارضك في "دمشق" باتت قليلة، وأكثرها خارجاً في "ألمانيا وفرنسا" وغيرها. 

حين أصبح لدي معرضي الخاص في "القيمرية"، لم أعد أشعر أنني بحاجة إلى إقامة معارض في "دمشق"، إلا إذا توفرت لي شروط جيدة لذلك، كما أنني أقمت معرضاً دائماً في مقهى "النوفرة" واستمرّ حتى ستة أعوام مما أدى إلى انتشاري في العالم، فأقمت خمسة معارض في "ألمانيا" ومعرضين في "فرنسا" ومعرضاً في "الناصرة" وآخر في "الشارقة"، وجميعها كانت سعياً للانتشار لا أكثر، وفي "دمشق" أبيع أفضل من "باريس وبرلين"، بمعدل /26/ لوحة شهرياً، ولي في العالم أكثر من /6000/ لوحة في أكثر من سبعين بلداً عربياً وأجنبياً.

 

 جوهر فلسفتي المحبة والصدق واحترام الأخر

ــ ما هي مقومات ودعائمأفق الصوفية الحديثة المتضمنة للأدب والفن في ذاكرة"محمود شاهين"؟ محاولاتي في تأسيس مذهب صوفي جديد يواكب تطور الحضارة الإنسانية، تكاد لا تذكر لأنني لم أجد الوقت الكافي لبلورة هذا الفكر وطرحه في كتب. لقد طرحت بعض جوانب هذا الفكر في عملين أدبيين هما "غوايات شيطانية" و"الملك لقمان" والثاني لم يصدر بعد، والأول صدر عن دار "نينوى" للطباعة والنشر في نيسان الماضي. أما الصوفية كفلسفة ليس بالإمكان التعمق بها ضمن مقابلة عن الفن التشكيلي، لكن يمكنني القول أني حاولت تبسيط الدين وشروط التدين إلى حدٍّ يمكن فيه أن يكون الإنسان العادي الذي لا يلتزم بأية تشريعات أو أركان للدين متديناً، فشروط التدين في فلسفتي هي المحبة والعمل والصدق واحترام الآخر بغض النظر عن دينه أو فكره.

وخلال عملي في الأدب والفن أفدت كثيراً من الفكر الصوفي الإسلامي عند "ابن عربي" بشكل خاص والفلسفات المادية والمثالية الأخرى الدينية منها وغير الدينية، فمذهب "ابن عربي" في وحدة الوجود أرقى ما وصل إليه الفكر الإسلامي،  ويا ليت أمة الإسلام تعي كم هو سام وخلاق هذا الفكر، أبدعه مفكر عظيم في زمن تألقت فيه حضارة الإسلام وتراجعت إلى الحضيض في أيامنا هذه.

ــ تعتمد في رسم اللوحة على المنمنمات البصرية الدقيقة التي تجمع اللون بخطوط التكوين.. هذا التمازج في الطرح الأسلوبي، ماذا يوحي أليك كمتأمل؟ وما تحليلك للعلاقة التي تجمعه مع عوالمك الصوفية؟

بعد هذا العمر أستند إلى ثقافة مقبولة، فحين أرسم أكاد لا أفكر، لأن ما تعج به مخيلتي أكبر من أن يعبر عنه الفن كله، وحتى الأدب أيضاً. رسمت "التجريد" في بداياتي لأنه الأقدر في حينها على التعبير عن أفكاري وهواجسي.. عمدت بعد ذلك إلى تجريب بعض المدارس الفنية الأخرى: "الانطباعية والواقعية والسريالية"، إلى أن انتهيت بالرسم التراثي الذي نهل من الأساطير والتراث بمختلف أشكاله، لا يمكنني تصنيفه ضمن مدرسة معينة، وإنما هو أسلوب لم يقدم عليه أحد من قبل، أمزج عبره بين الرسم والحفر، مستفيداً من فنون الزخرفة الإسلامية، والتطريز الشعبي، والمنمنمات والأزياء والتراث القديم بما فيه الوثني والأسطوري والعبادات القديمة، التي انعكست في أعمال تراثية خالدة، كالفن "التدمري والبابلي والفرعوني والكنعاني".

لهذا السبب سألني كثير من الناس إن كان فني فرعونياً؟ وكثيراً ما أسمع السواح يتحدثون عن الفن الفرعوني، وهم ينظرون إلى واجهة مرسمي، مع أن فني ليس فرعونياً على الإطلاق، لكنه يوحي بذلك وفي كل الأحوال يلمس المشاهدون التراث القديم والأساطير في لوحاتي. أما الصوفية في العمل الفني مسار عميق ويتطلب جلداً وصبراً وتأملاً.. هذا ما وجدته في المنمنمات البصرية الدقيقة والزخرفة والتطريز الشعبي، وبما أنني اعتدت الجلد في كتابة الرواية، فإنني لا أجد مشكلة في أن أمكث بضعة أسابيع في رسم لوحة أكون خلالها متأملاً وسارحاً في خيال صوفي، يصبغ علي متعة فريدة تنسيني الوجود من حولي.

ــ أشار البعض إلى أن الشخوص الظاهرة في أعمالك تبدو وكأنها منحدرة من أصول وثنية أو قادمة من أواسط الجحيم، ماذا تقول في هذا؟   

الذين قالوا ذلك محقون تماماً، وقد أشرت إلى العالم الذي استوحي منه شخوصي، وفيما يتعلق بالجحيم فإن لي معه قصة! فذات يوم رسمت لوحة وأنا في حالة غضب شديد، لم أكن أعرف ماذا أرسم، ما أعرفه فقط أنني كنت غاضباً، وأريد أن أزيل هذه الشحنات من نفسي، فصرت أرسم وألون دون تفكير وحين عرضت اللوحة في معرض أقمته "بدمشق" القديمة، وقف رجل هولندي أمامها مذهولاً، وراح يقترب ويبتعد من اللوحة وهو يصفر مندهشاً، وما أن فرغ من ذلك حتى سألني عن ثمنها، وقام باقتنائها، ثم سألني عما أقصده منها؟ وبادرته السؤال بدوري عمّا يراه فيها؟ فأجاب: «يوم القيامة»، فأطبقت بيدي على رأسي من هول الدهشة فأنا كنت أرسم يوم القيامة دون أن أدري، فقلبتها وكتبت خلفها "يوم القيامة" ووقعت، وهكذا ترى أنني أرسم هذا المصير، فلماذا لا أرسم أناسا قادمين من الجحيم؟.

ــ ما اللحظات الأكثر سمواً وجمالاً التي يعيشها الفنان التشكيلي برأيك؟

الفن التشكيلي خلق وإبداع مثالي أي أنه مسألة ربانية، والفنان حين يكون ضمن حالة إبداعية يكون بالتأكيد مع "الله"! فأية حالة هي الأجمل من  أن تكون مع "الله"؟ ولا يمكن للإنسان العادي أن يحسّ بهذا الشعور إلا الفنان الحقيقي، وحين قررت التحول إلى الرسم، مكثت بضعة أسابيع في رسم لوحة وأنا متخوف من الفشل، وحين أدركت أنني نجحت في رسمها، ركعت أمامها ورحت أبكي شاكراً "الله" على إنهائي لها.

الفنون تبلغ ذروتها بالنقد والحراك الثقافي

ــ الفنون الجميلة والآداب برأيك، هل سمت بالإنسان إلى المنازل الرفيعة والأخلاق العالية؟      

الفن التشكيلي بشكل عام كالموسيقى والشعر الحديث فن غير مباشر، ويفقد الكثير من قيمه الجمالية حين يلجأ إلى المباشرة. قد أستثني فن "الكاريكاتير" لأنه مسائلة أساسية له، ثم إن الفنون والآداب لا تحدث انقلابات وتأثيرها ليس مباشراً بل تراكمياً ويحتاج إلى أزمان.. رغم أنني أرى العالم لم يتغير بعد، بل تزداد فيه الحروب والمآسي الإنسانية، ولم تفلح الفنون والآداب بأن تسمو بالإنسان إلى منازل رفيعة وأخلاق عالية، ومع ذلك ليس أمامنا إلا الأمل لعلّ البشرية تصحو ذات يوم على عالم أجمل وأكثر محبة وعدالة وإنسانية، فنحن كذلك العصفور الذي تحدث عنه الصديق الكاتب "حسن م. يوسف" في صحيفة "تشرين"، الذي انقلب على ظهره في حقل الحراثة  ليمنع سقوط السماء برجليه.

ــ يعدّ التشكيل الفطري ركناً أساسياً في الفنون التشكيلية عموماً، وأحياناً يكون مرتبة مثالية ترفد أعمال الرسام إلى التمييز والخلود، رغم ذلك هو مكروه عند بعض الفنانين، ما تعقيبك على ذلك؟  

 

هناك من يخلطون بين "الفطرية والجهالة"، أي عندما يرون رساماً فطرياً يظنون أنه جاهلاً ولا يستطيع أن يرسم بشكل واقعي مثلاً،  وقد ينطبق هذا الرأي على فنانين أميين أو غير مثقفين، لكنه لا ينطبق على "فاتح المدرس" الذي حمل أعلى الشهادات من أهم جامعات العالم ومع ذلك كان في معظم أعماله فطرياً وبالتأكيد لا ينطبق علي، فالفطرية والتجريد يعدان من أصعب أنواع الفن التشكيلي.

خلال العام الماضي مثلاً جربت أن أكون طفلاً لأرسم بعقلية طفل، صحيح أنني نجحت إلى حدّ ما، لكن في أن أكون طفلاً كبيراً وواعياً ولم أكرر المحاولة، ومنذ أن قررت احتراف الرسم في سن متأخرة /48/، كنت على قدر من الثقافة منحني معرفة أرشدتني إلى رسم ما هو خاص بي فقط، ولم يرسمه أي فنان في العالم قبلي.

ــ ضمن الإعلام المحلي السوري، لماذا لا يأخذ الفن التشكيلي حقه الكافي كفنٍ متصدر لرقي الحضارة في اعتقادك؟

الإعلام لا يستطيع أن يغطي مختلف النشاطات الثقافية والفنية رغم كل ما يبذله من جهد، أحياناً ودون قصد تجد الإعلام يركز على فنان أو فنانين معينين على حساب كثيرين، المسألة في حاجة إلى منهجة ودأب وجدية أكثر.

هناك الكثير من الكتب تصدر ولا يسمع بها أحد، وإذا لم يقم الكاتب أو الناشر بإرسال نسخ إلى أسماء معينة في الصحيفة فإن أحداً لن يسمع بها إلا في حالات استثنائية، كما أن هناك قلة من النقاد الذين يمكن أن يكتبوا عن الآداب والفنون. لقد ظننت أن ملحمة "غوايات شيطانية" ستحدث زلزالاً في الثقافة، للأسف لم أقرا مقالاً عنها سوى على الانترنت وبالتأكيد سيكون مصير ملحمة "الملك لقمان" الشيء نفسه، فالآداب والفنون لن تبلغ ذروة تطورها إلا بالنقد والحراك الثقافي سلباً وإيجاباًَ في ظل إعلام يرفدها إلى ذلك، وللأسف الحراك الثقافي في الدول العربية يكاد يكون في حدوده الدنيا حتى لا أقول معدوماً، ويبدو أن الاهتمام ينصب دائما على الشخصيات المرموقة والهامة كالراحل "محمود درويش" الذي حرص كل بلد عربي على  أن يكون له في رحيله النصيب الأكبر.

 

ببلوغرافيا الفنان

"محمود شاهين" فنان وروائي وناقد، ولد في "القدس" عام /1946/، يكتب في الفكر والنقد الأدبي والفني وبشكل خاص في صحيفة دفاتر ثقافية التي تصدر عن وزارة الثقافة الفلسطينية في "رام الله"، عمل مدرساً في الفن التشكيلي في الأكاديمية الصيفية الأوروبية التي تقام بإشراف كلية "راهل فارن هاجن" في "ألمانيا"، له مقتنيات فنية في أكثر من /30/ بلد في العالم، أقم عدة معارض شخصية، وله العديد من الأعمال الأدبية والمخطوطات التي لم تنشر بعد.