"نبيل السمان": قرار إنجاز اللوحة هو أصعب قرارات الفنان

علاء الجمّال

"نبيل السمان" فنان تشكيلي بدأ منذ طفولته بالاهتمام بالرسم، وخزن مئات الصور في ذاكرته من خلال سفره إلى "أوروبا" ليكون بعد ذلك من أكثر المهتمين بتاريخ الحضارات التي أثرت معرفته وجعلته يدرس الفن بشكل معمق ويصبح واحداً من الفنانين الذين ينتمون ويفتخرون بتاريخ وحضارة بلاد الشام.

"السمان" عرف برؤيته المحللة للمشهد الطبيعي والتاريخي والزمني والوجودي من خلال لغة تشكيلية يحكمها الحدس واللون وكيمياء الضوء، كحالة كشف للذي يراه في اللوحة من حالات العبادة والتصعيد الروحي.

وللدخول في المسارات الحسية لهذه اللغة زارت المفكرة الثقافية الفنان بتاريخ 26/4/2009 في مرسمه بمنطقة "العدوي" في "دمشق"، وكان الحوار التالي:

* كيف بدأت العمل على تشكيل ذاكرتك البصرية الجمعية، وإدراج تفاصيلها في اللوحة؟

** بداية التشكل كانت في الطفولة، حيث كان مناخ أسرتنا محب للأجواء الأدبية والموسيقية والتشكيلية، والدي صديق للفنانين "عبد القادر أرناؤوط"، "فاتح المدرس"، "إلياس زيات"، والحوار بينهم غالباً ماكان يصب في عمق الحركة التشكيلية السورية والعالمية، وهذا كان يدفعني إلى زيارتهم معه لأرى مراسمهم وأتابع معارضهم الشخصية، وأكوّن قناعاتي ورؤيتي.

وأثناء دراستي في كلية الفنون تركزت أول أبحاثي حول المقاربات فعدت إلى تاريخ المدن المنسية والثقافات القديمة رسمت "معلولا" والحارات الدمشقية، والطبيعة الصامتة والمنحوتات التاريخية المعروضة في متحف "دمشق" الوطني وغيره، ومن ثم درست الضوء في الطبيعة وفي الأمكنة الخالية، نظراً لأن للضوء خصوصيته في بلادنا. وبالمناسبة هناك من سبقنا في دراسة هذه العلاقة مثل الفنان الإنطباعي الفرنسي "مونييه" وغيره من الفنانين الذين عملوا على البحث اللوني وكيمياء الضوء.

بعد تخرجي قمت بعدة سفرات إلى "أوروبا" وأهمها كانت إلى "باريس" عاصمة الفن في العالم، وهناك اطلعت من خلال المتاحف على أعمال فنية للفنانين "بيكاسو"، "كاندينسكي"، "زاتكين"، "رودان" وآخرين من فناني الحداثة مما أغنى ذاكرتي البصرية بالطاقة السرية المحيطة بالعمل من خلال مشاهدته مباشرة وليس من رؤيته في المطبوعات، وهذا الغنى جعلني أرى موقعنا في الزمان والمكان، وأتساءل عن انتمائنا نحن الشرقيين إلى تاريخنا ، وهل نحن نقلد الغرب؟

إننا نملك تراثاً ثقافياً هائلاً، وهناك شخصيات شكلت بداية الحداثة في الفن مثل المنمنمات اللونية الزخرفية التي استخدمها "الواسطي" في الرسومات التوضيحية للكتب، كذلك في العمارة حيث يستوقفنا "النحت التدمري" و"الأيقونة المحلية"، لذلك رأيت أن الفنان الذي يملك هذا الغنى في تاريخ وحضارة بلاده لا يمكن أن يقلد الغربيين، وبالتالي سوف تظهر خصوصية أدائه ولمسته التي تحمل هوية انتمائه ووجوده. وهذا ما سعيت إليه في لوحتي الآن حيث أصبحت أكثر نضوجاً وتحمل معرفتي ورؤيتي للزمن القديم والمعاصر والمستقبلي.

* كيف تقرأ زمن اللوحة؟

** في الحقيقة قدمت للوحة أكثر من فن عبر علاقتي بالجمال، ومنه العمارة والمسرح والأدب والموسيقا والشعر، فاللوحة التشكيلية حالة اختزال وبوح مثل مصفوفات القصيدة، إنها عمل فردي له أجواؤه وخصوصيته وطقسه، من هنا تأتي علاقتي بمساحتها البيضاء التي أراها دائماً الأكثر نورانية. إنها السطح الذي يستحوذ على مكنون ذاكرتك البصرية الجمعية، فيحرض خبراتك في الحياة، وفهمك لتاريخ الحضارات، وقراءاتك للفنون المندرجة عبرها على الخروج والامتزاج والتوحد في نصّها البصري الذي تصبو إليه، فأحياناً يدعوك العمل للتوقف حتى يرتاح ويأخذ بعضاً من الأوكسجين ثم يحرضك بعد حين للعودة إليه. إنه إذاً القلق المشروع لمعاودة التعاطي مع هذا السطح الذي أراه حالة من حالات العبادة والتصعيد الروحي الذي يسعى إليه الفنان، وهو برأيي يبدأ من الصفر في كل مرة.

* قلت في أحد قراءاتك للوحة: «جميل أن نختبر السطوح في الجغرافيا لمسافات أكثر رحابة، وتضاريس تنتظر الاكتشاف» هل لك أن توضح ذلك؟

** كل لوحة أنجزها أعتبرها كشفاً جديداً، وحالة معرفية متقدمة ببحثها الكيميائي للون وغاية نصها البصري، فيجب أن تأخذ حقها من ذلك دون الاستسهال والاعتماد على المصادفات، وهذا الهم الأول في العمل الفني فإن لم يقدم إضافات للذاكرة يكون متراجعاً بالزمن، والمفروض أن يكون متقدماً بالزمن، وهذا يقودنا إلى الهم الثاني (اللوحة المستمرة زمنياً) التي مهما طال تاريخها تبقى حديثة المحتوى إن كان بالفكر الذي تحمله، أو بالانطباع الجمالي الذي تتركه عند المتلقي. من هنا نرى سر استمرار بعض اللوحات العالمية مثل لوحات "فان كوخ" التي إن تأملناها اليوم نشعر أن الفنان غادر المكان قبل لحظات قليلة إثر الانفعال والحيوية وقوة التشكيل الذي تضج به، فالمفروض على فناننا إذاً السعي إلى امتلاك حلول للغز الاستمرار الزمني للوحة، بدءاً بسؤال نفسه ماذا سيقدم، وبأي اتجاه سيمضي، علماً أن أكثر فناني اليوم مقيدون في قوالب مغلقة ولم يعد بإمكانهم تقديم الجديد، فراحوا يكررون أنفسهم، بينما على البحث الفني أن يكون متجدداً.

* كيف يتولد لديك الإلهام عند البدء بإبداع لوحة؟

أهم شيء في حالة الإلهام أن يكون لديك حالة امتلاء عاطفي، جمالي، تأملي، وتأثير تحريضي لها قد يأتي من المؤثرات الخارجية التي تحيطك في البيت والشارع والأصدقاء، أو من مشاهدات السحر الطبيعي كرؤية الألق الرباني في قطرات المطر أثناء اصطدامها بالأرض وأثرها بعد السكون. هذه المؤثرات تختزنها الذاكرة حتى تأتي لحظة البدء فتتحرر إلى محتوى تشكيلي على السطح الأبيض الذي يستفزك بنورانيته لأيام وأنت تتجنبه.

أحياناً يمر عليّ وقت طويل لا أعمل خلاله حتى أشعر بحالة من هذا الامتلاء، ودفع من المؤثر التحريضي فأشعر باللحظة التي أقرر بها بدء الدخول في تشكيل اللوحة فأنعزل عن كل التفاصيل لأبدأ العمل.

إذاً اللحظة حالة وجودية لا غيبية، ناتجة عن فعل الامتلاء والتأثر، نشوتها ليست في بداية تأسيس العمل الفني بما تحمله من جنون وإنما في مرحلة متقدمة حيث الانعتاق من الزمن، وذلك يتم خلال جلساتك أمام اللوحة، وكل جلسة تعلن بداية جديدة في اللون والتكوين، ويبقى الفعل حتى تشعر يقينياً أنها أنجزت، وقرارك بإنجازها من أصعب القرارات التي يتخذها الفنان في عمله، لأن قراره مصحوب بالتوتر والقلق حول مسألة الاستمرار الزمني للوحة، وليس مطلوب من الفنان أن يقول كل شيء في عمل واحد.

* ماذا عن حواريتك للألوان الحارة والباردة، والصيغ التي يتم تقديمها في لوحتك؟

** من الأسرار الثابتة في تكامل العمل الفني وجود لون طاغ أو منتصر على بقية الألوان، الأخضر والأزرق مثلاً يخلقان درجات لونية غير متناهية، ونضوجها يتفاوت حسب خبرة الفنان ومزاجه وغالباً ما يأتي النضوج بعد مرحلة أساسية يمر بها وهي مرحلة الأبيض والأسود التي تحمل الحس الغرافيكي وتشير برونقها إلى الزمن الفائت، اللون الأسود مثلاً في أساس الأيقونة اعتبره فنانو الأيقونات رحلة الظلمة إلى النور، وهذا يدل على أهمية هذه المرحلة في التعاطي مع الفن التشكيلي وفهم اللون الحار.

في مطبخ التشكيل السوري نلاحظ تقشفاً في اللون، إذ إن الملونين لدينا قلائل، وقد كان منهم الراحلين "فاتح المدرس" و"نصير شورى". إن اللون يحمل قيماً عالية والسيطرة على جموحها في اللوحة توشيحات تحمل اشتقاقات اللون الواحد والتضاد اللوني. أما أنا في أجوائي لا يحكمني المزاج في اختياري للون وإنما أعتمد على حدسي به وأعود بتركيزي إلى علومه، والقيمة النهائية له تتشكل باللمسات الأخيرة على سطح اللوحة، والسؤال كم هذا اللون بحاجة إلى دقة في التركيب ومزج عجينته حتى يمنحك ماهيته التي ترغب. إن التجارب في تاريخ الفن قدمت حلولاً لا نهائية لكن الكيميائية أمرغير نهائي وحتى الأزل ستبقى قابلة للاكتشاف.

* يشير البعض إلى أن الفن مجرد جمال صامت، بينما هو في بعض الدراسات العالمية محاور بليغ وجريء، كيف تقرأ ذلك؟

** الفن بكافة أشكاله وهم جميل يخفف من كآبة الحياة ويبرر استمراريتنا ومن دونه نتحول إلى مجتمع غريزي. ما هو حجم معرفتنا نحن البشر إذا ما عدنا إلى الإنجازات الإنسانية التي خلفها الإنسان عبر السنين: خبرات وعلوم وعمارة جميعها فن. ألا يجدر بنا أن نضيء بهذا الإرث جوانب جميلة من حياتنا تحسن عيشنا وتعزز نتماءنا ووجودنا؟ الفن ضد البشاعة والقتل، والسؤال، كم كان هذا الفن شاهد على عصره؟ الأجداد تركوا لنا إرثهم، ونحن بالإرث الذي سنتركه سوف نقدم صورة معبرة عن زمننا. إذاً الفن محاور جريء وبليغ.

اليوم بات الفن أشبه بحالة التأمل التي يعيشها الصوفيون. إنه لحظة اختزال تختصر اللهاث الفظيع الذي يعيشه الإنسان في زمننا الراهن حتى يعود إلى إنسانيته ويضبط هذا العصر المجنون. والعمل الفني بجماله ومتعة وجوده يقدم نفسه بشكل غير مباشر كتفريغ لمشاعر وهواجس وأحاسيس وتمنيات تولدت بحكم المعايشة والأمل. إنه ليس للمناسبات بل حالة وعي وإدراك حقيقي يذكرك بإنسانيتك.

* كيف يستمد العمل الفني حضوره التاريخي والدلالي برأيك؟

** نحن ننتمي إلى منطقة حضارية موغلة في القدم… تحمل بين عوالمها الميثولوجيا والعمارة والفلك كأن نذكر حدائق "بابل" المعلقة، والنحت الجنائزي التدمري، ولوحات الفسيفساء في "سورية". هذا الإرث بكل تجلياته يمنحنا شعوراً بالتواضع لأنه يحيلنا إلى صناعة فن جميل يشبهنا، ويؤكد بعدنا الحضاري مع تقديرنا للإرث الإنساني الذي تركه الإنسان على مر العصور. من هنا يستمد العمل الفني الأصيل حضوره التاريخي والدلالي على أن يكون حالة فنية صحيحة يلازمها علم نقدي بليغ يفصل بينها وبين التجارب العبثية التي لا تحتمل تفاصيلها قيماً تشكيلية أو تاريخية أو دلالية.

"بيكاسو" مثلاً أخذ من الفن التدمري. "ماتيس" أخذ من الفن الجزائري، وهنا أقول: إذا نظرنا إلى إرثنا الحضاري والإرث العالمي بجدية ووعي حتماً سوف ندرك أفقاً جديدة في الرؤية والاتجاه.

* ما القيم الفنية التي حملتها ممن رحلوا من مبدعينا التشكيليين وبالأخص "فاتح المدرس"؟

** هؤلاء ثابروا واجتهدوا على أنفسهم حتى باتوا مدرسة حقيقية يحتذى بها. لقد كانوا بفنهم حالة ثقافية نموذجية تحمل الكثير من القيم والسمات. هذا ما أورثونا إياه وعملنا بدورنا عليه. "فاتح المدرس" كان لديه مكتبة ضخمة من الحوارات الذهنية التي كان يفكر بها. كان يتكلم عن ألوان التراب في أكثر من جغرافيا في "سورية".

"المدرس" فنان سوري بامتياز منذ طفولته في سهول "حلب" وفي حديثه حول الفن والتاريخ والحضارة والطبيعة، وفي وجوه الفلاحات الريفيات اللواتي رسمهن لدرجة أن الوجه الذي يرسمه صار سمة يعرف بها عالمياً.

* ما هي دلالات وجود السمكة في لوحتك؟

** لتخفيف الإيقاع الحركي بين العناصر. أو تحقيق شعورية انعدام الوزن في الوسط المائي. إنها مقاربة تشبه الحلم تشبه مكاناً أقل تلوثاً وأكثر طهراً.

إنني أبحث عن مناخ مختلف يوائم إعادة صياغتي لهذه المقاربات التي تحمل الاستعارات والشيء الغرائبي لكن الأساس في لوحتي التشخيص، ولاسيما أننا في زمن ما بعد الحداثة في الفن التشكيلي الذي عاد وبقوة إلى التشخيص حيث يكون للإنسان حضوره في اللوحة مع وجود لطيف لكائنات أخرى سمكة أو غزال أو قطة أو طير، لا لأن تكون محاورة للناظر بقدر ما هي كائن يبرر الصمت في اللوحة.

* عملت في البدايات كمصمم داخلي للعمارة، فإلى أي مدى أثر هذا التخصص في عالمك التشكيلي؟

** أنا مصمم داخلي، وعملي إيجاد حلول جمالية للفراغ من خلال علاقتي بالكتلة والفراغ والحجوم والحل الوظيفي وإضاءة المكان، وهذه خبرة مضافة على عملي التشكيلي، وبدورها شكلت الطقس الذي سيقدم لوحتي في المكان الذي ستوضع فيه خارج المرسم حتى تفرض عليه مناخها ووجودها.

إن الديكور أحياناً حالة بورجوازية، والتشكيل حالة أكثر إنسانية وفردية وكلاهما له شروطه، فخشبة المسرح مثلاً تحتاج إلى هواء نظيف وإضاءة مناسبة للنص، بينما غرفة معيشة بحاجة إلى مكتبة ولوحة تفتح باباً للحوار وفرشاً مريحاً حتى يعبر ساكنها عما في داخله. أما اللوحة فتحتاج إلى مناخ وطقس يلبي شروطها لتعبر بالشكل الأمثل عما يرتأي إليه الفنان في تأملاته، ودون أن يملي عليه أحد شروط العمل على خلاف الديكور الذي هو عمل جماعي خاضع لشروط وقوانين لأكثر من شخص.

* حدثنا قليلاً عن معرضك الحالي؟

** أنا في هذا المعرض أشبه نفسي كثيراً، ففي تعاملي مع علاقة المربع في الدائرة، والدائرة في المربع وإشكالية هذه العلاقة أوجدت عناصر تحاول الانعتاق من الجاذبية الأرضية ولها حس مشترك مع الماضي، حيث نرى في كل عمل مشاهدات لعدة أزمنة، وفي كل مرة أقدم حلاً مختلفاً باللون والتكوين، وهذا البحث أعتبره محطة ضمت كل خبراتي السابقة.

 

ولد "نبيل السمان" في "دمشق" عام /1957/،

تخرج من كلية الفنون الجميلة ـ جامعة "دمشق" ـ قسم (التصميم الداخلي) عام /1981/،

درّس الفن في مدارس خاصة ولفئات عمرية مختلفة، كما أقام عدة ورشات عمل للأطفال،

نفذ عدداً من اللوحات الجدارية في "دمشق" و"عمان" و"الكويت"،

أقام العديد من المعارض الشخصية، وله مشاركات في معارض جماعية مختلفة،

أعماله موجودة في وزارة الثقافة السورية، متحف "دمشق"، متحف "الشارقة"، وضمن مجموعات خاصة في "لبنان"، "عمان"، "الكويت"، "الشارقة"، "دبي"، "فرنسا"، "إسبانيا"، "ألمانيا"، "أميركا".