"نذير نبعـة": الألوان مخلوقات من النور تتجلى للبصر

 إيمان أبوزينـة - علاء الجمال 

الثلاثاء 02 حزيران 2009

 

"نذير نبعة" فنان تشكيلي باحث في علم التكوين والمفردة البصرية التي يطلقها الخيال ويحكمها منطق الخط واللون، وتدور في فلكها حكايات وذكريات. 

أعماله تتركنا أمام دروب متشعبة من الأسئلة والحوارات مما يجعلنا نسعى لمعرفتها. وعبر هذه الرؤية كان لموقع eSyriaأن التقى الفنان "نبعة" بتاريخ 30/5/2009 في غاليري "تجليات" ـ "دمشق" وأجرى معه الحوار التالي:

 * تشبع عينك الباحثة في جماليات الطبيعة والخيال وتختار من البحث عناصر جمالية فاتنة كثمرة التفاح والرمان… هلاّ أوضحت لنا رؤيتك لهذه المفردات وخاصة الطبيعة الصامتة التي تحملها في ذاكرتك؟

** نشأت في أحضان الطبيعة الريفية حيث كانت طفولتي في بستان جدتي أم "محمود" في "المزة" وكان هذا البستان جنتي الجميلة التي تعلمت فيها عشق الطبيعة، ومن هذا العشق الحميم كانت الدروس الأولى في تربية البصر والبصيرة، كما كان بيتها الغارق بين أشجار "التين والجوز والتوت"، وحكايات (الزير "أبو ليلى المهلهل"، وأبو الفوارس "عنترة بن شداد"، والغولة، والعصفور الأخضر) أرض الخيال والتخيل، وهو أول مرسم لي بعد أن تركتنا تلك المخلوقة التي تحمل في قلبها حنان العالم.

تلك الدروس كنت أعيشها في تتالي الفصول وتتابع الليل والنهار، وفي حرارة النور ورطوبة الظلال… في رحلة الضوء الخالدة مع شروق الشمس عندما تنبثق الألوان والأشكال والأصوات والمخلوقات من خلال الليل كما تنبثق الحياة من العدم، هناك في البساتين الحياة نفسها متعة بصرية دائمة فسيحة الأرجاء تغمر العين بفيض دائم من المشهد الطبيعي المتنوع الجمال والمتحول مع رحلة الشمس في السماء بتبدل الظل والنور وتتالي درجات الألوان اللانهائية، وتوالد الأشكال والصور خلال انعطاف الجذوع وتشابك الأغصان…

أتسلق شجرة "الجوز" وجذعها الأبيض الخشن فتعلق الخشونة بكف يدي ثم تنزلق هذه الكف على نعومة شجرة "الميس" فتمحى تلك الخشونة، بهذه البساطة، أتعلم ملمس السطح في تلك التحولات وفي اختلافها وتألفها في تنوع الورود والأزهار والثمار، وعندما تجذبني غريزة الفراشات وأكتشف طعم الرحيق في زهرة ما تغمرني تلك الفرحة البكر، وكأني أكتشف طعم اللون، وأرحل مع التفاحة الثمرة في أشعار الزجل السوري متغزلاً بخدود الصبايا، تغمرني رائحة الزهور متذكراً تفتح براعم الأوراق في الربيع، متذوقاً طعم التفاحة وسكره الفردوسي في الصيف، وأسرح في ذلك السر البهي الذي تحمله شجرة الرمان الجميلة في تماهيها مع صدور جميلات البساتين وما تحمله تلك الثمرة في قلبها، ذلك الكنز الأرجواني يختزل الشرق ودفئه.

 * الطبيعة الصامتة في أعمالك لها رونق يجعل النفس تختلج بمشاعر دافئة … ما البعد التشكيلي خلف هذه العناصر؟

** أغلب ما يؤلف هذا الموضوع الطبيعة الصامتة، وهي أشياء حميمة رافقتني منذ الطفولة وحتى ما قبل الوعي، فكان نور القنديل الذي يحمي من خيالات العتمة المخيفة، النور الذي يطرد الخوف، النور الذي أقرأ على ضوئه كتبي حتى مرحلة متقدمة من الدراسات الأولى… أما القوقعة ذلك المخلوق الشفقي اللون ذو الشكل الغامض عندما وضعتها على أذني وكنت طفلاً سمعت صوت البحر حتى ظننت أن البحر فعلاً في داخلها، ورأيت الغجرية ذات مرة تبعثر مجموعتها من الودع على الأرض لتكتشف غموض الأسرار المضمرة…

والناي تلك القصبة الفارغة تنطلق في فراغها الأنفاس من الصدور لتخرج من ثقوبها أصوات مليئة بالشجن والحنان، وربما حميمة هذه الأشياء هي التي تجعلها أشكالاً جميلة تبهج البصر والبصيرة، ويجد فيها العقل رموزاً للمكان فينتفي الصمت عن الطبيعة ويصبح أسمها في لوحاتي "دمشق".

 * تكررت صورة الساعة بأكثر من لوحة لديك، ما دلالتها في نفسك؟

** الساعة تكررت في عدة لوحات، وهي ساعة جيب جدي التي كانت تبهرني بحسابها للوقت بحركة عقاربها السوداء خلال تلك الأرقام المرشوقة على حينائها الأبيض المستدير.

 * ماذا يوحي اليك النور وكل هذا الربيع في ورود لوحاتك كفنان وباحث في ومضة النور؟

** النور هو الضوء الذي يغمر الأشكال فتخرج من الظلمات إلى الوجود، وتصبح في مجال العصر وفي مجال الوقت يختار الخيال ما هو قابل للنقاء في فضائه الرحب ليعطيه خصوصية الصور، فتخرج أشكالاً قابلة للوجود على سطح اللوحة بواسطة أدوات الفنان الخط واللون والمساحة التي تشكل الكيان المادي لتلك الصور والأشكال.

لقد كان سور بستان جارنا أبو "سالم" من الورد الجوري ، وكانت وروده ذات اللون الزهري تضيء المكان بالفرح الربيعي، و توزع رائحتها مع النسيم في أرجاء البساتين المجاورة، وبيوتها… كما تتوزع أزرارها وورودها على تلك البيوت لتصبح شراباً ينعش الأنفس ويشفي العليل . هكذا تتشكل معاني هذه الموجودات بالنسبة لي، هي في البداية ذكريات حميمية تصبح في الخيال صوراً ترسمها الأشكال والألوان على سطح اللوحة التي أحاول تحقيقها محملة بمعاني ورموز البدايات.

 * اللون الأزرق الزمردي نكاد نراه في لوحتك كسحر تكويني يعود بنا إلى أصل الكون،هل لنا بوصفٍ لعوالم اللون لديك، وتحليل للمسة القداسة فيه؟

** الألوان مخلوقات من النور تتجلى للبصر في تلك الظاهرة الفيزيائية الساحرة (قوس قزح) التي تسكن في خبايا الذاكرة لكل الأطفال ومن بقي الطفل حياً في نفوسهم من الكبار،وقد فهمها فنانو الأرابيسك فأصبحت في أعمالهم رمزاً للكون والسماء وعناصر الوجود الأخرى، وعلى هذا الفهم لونوا أشكالهم الهندسية والنباتية في الرقش العربي الإسلامي وعبروا بها عن فلسفتهم في السمو والتوحد، وفي فهم الأشكال والصور. أما أهل الغرب فقد فهموها على أنها تماهي الألوان الأساسية الثلاثة (الأزرق والأحمر والأصفر) في بعضها، وتلك الدرجات اللانهائية من اللون التي تنتج عن ذلك التماهي، وبالتالي تلك ملحمة لانهائية تنتج عن صراع وتداخل الحار بالبارد وما ينتج عنها من جماليات و صور للعين والبصر.

 * ما هي تجليات الحنين والحب في مخيلة الأستاذ "نذير نبعة"؟ وما سمات المرأة الموجودة في عالمه؟

** أول  ما يفتح الوليد عينيه عليه هو وجه أمه، فوجه المرأة مفتاح الوجود والكون والإبصار… المرأة هي النصف الآخر من المخلوقات التي طغت فيه مكونات الأنوثة، فكانت الأنثى لتكتمل المعادلة بينها وبين الذكر. هذه الثنائية التي بني الكون على أساسها (الحار والبارد ـ الليل والنهار ـ الذكر والأنثى ـ الأحمر والأزرق ـ السماء والأرض)، هي من كوّن الصورة لهذا المخلوق ( المرأة ) في لوحتي.

في البدء وجه الأم الذي هو مفتاح الوجود، وفيما بعد تتالى الوجوه إلى الذاكرة خلال حكايا الجدات عن سيدة الحسن والجمال، وأوصافها التي تمتزج بأوصاف ابنة الجيران ووجهها المدور كالقمر، وأوصاف "عشتار" ربة الخصب في الميثولوجيا، وأوصاف المرأة في السير الشعبية والملاحم، وفي النهاية هي هذا الوجه (الأم والأخت والحبيبة والمدينة والوطن) … هذه هي المرأة في عالمي البصري الذي يشكل لوحتي.

 * المدهش لديك في اللوحة هو هذاالعزف الموسيقي الذي نحسه فيترك الكثير من التساؤلات ، ترى من هو العازف في لوحتك وأي لحن ترغب بإرساله إلى المتلقي؟

** اللوحة عندي تعبير عن الحاجة للحوار مع الآخر لأن اللوحة في خيالي أجمل من أي لوحة يمكن أن أحققها على سطح القماش لأنها في الخيال لوحة حية متحركة الأشكال والألوان والصور المليئة بالحياة. ولوحة (الحامل) هي الصورة المادية الثابتة لذلك حيث يدفعني لتحقيقها الحاجة الى الحوار الإنساني. أما العازف الحسي والبصري فهو الحب الذي أكنه للعمل، ومن خلال العمل يكمل الحوار الإنساني مع الآخر.

 * يبدو أن إنسانك وبعض مفرداتك تحمل جانباً من الغموض، فهل نستطيع القول أن القلق الدائم هو السبب في ذلك؟

** عشت منذ بداية العمر حرب الاستقلال وخروج المستعمر الفرنسي، وفي بداية الوعي الانقلابات العسكرية المتتابعة ثم حرب /67/ ثم تتابعت الحروب حتى احتلال "العراق" وحروب المدن "بيروت" و"قانا" و"جنين" و"غزة"… ألا يدعو ذلك إلى القلق و الحزن؟

* هل من الممكن أن تحدثنا عن بعضٍ من "الوجدانيات" التي نراها في لوحتك وما تراه وتشعره نحوها؟

** يتجلى الكون بمفردات تتوالد وتتشكل بحياة لا نهائية أشبه بتوالد مفردات الرقش الإسلامي البديع وكل مفرد منها بحد ذاته يتجلى بعدة صور خلال ساعات النهار وتغير الفصول ومرور الزمن، فأنت اليوم ليس أنت البارحة ولا أنت غداً.

إن الجرف الصخري الذي استوحيته في لوحة التجليات بنتوآته الغائرة والنافرة يكون فضاءً بصرياً متغير الصور منذ انبثاق النور في الفجر حتى يلفه الظلام في الليل، ويظل يتجلى خلال الأيام والفصول والسنين عن صور لانهائية مليئة بالحياة.

 * هل نسمع رأي الأستاذ "نذير نبعة" في هذا المعرض؟

** هذا المعرض هو معرض استعادي يضم مراحل عدة مررت بها خلال مشوار اشتغالي بالفن امتدت منذ 

الستينات وحتى الآن. هذا المشوار فترة تكونت فيها أجيال لم تتعرف على مجمل إنتاجي، فكان هذا المعرض يحتوي على نماذج من الأعمال تمثل تلك المراحل.

في سطور

 ولد الأستاذ "نذير نبعة" في "دمشق" عام /1938/،

 درس التصوير الزيتي في "القاهرة" من العام /1959 ـ 1964/، وفي "باريس" من العام /1971 ـ 1974/،

 عمل معيدا في كلية الفنون الجميلة في "دمشق" ثم مدرساً فأستاذ.

أقام/7/ معارض شخصية:

- ضيف شرف على بينالي القاهرة الدولي

- معرض مجموعة التجليات في صالة الأوبرا عام /2004،

- له مشاركات مختلفة في معارض عالمية مشتركة،

- مشارك في الحركة السورية والعربية منذ العام /1952/،

- له تجارب ومشاركات في مجال الرسم الصحفي ورسوم كتب الأطفال،

- حائز على جوائز مختلفة… منها: دبلوم شرف بينتالي القاهرة عام/2204/ ،

 ووسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة عام /2005/.