11

القديس "مار مارون" هو مؤسس الطائفة المارونية وشفيعها، عاش وتنسك وتوفي في شمال "سورية" /محافظة "حلب"/، واليوم وبعد اكتشاف ضريحه في قرية "براد" الأثرية أصبحت هذه القرية محجاً لأبناء الطائفة من مختلف المناطق سواءً من "سورية" و"لبنان" وباقي الدول.

لقد تعامل "مار مارون" مع السكان بوداعة فكان يستمع إلى مشاكلهم ويحل قضاياهم كما كان يقدم لهم نصائح في أحوالهم النفسية، وكان لطريقة "مارون" النسكية ونجاحه في طي صفحة عبادة الأوثان من "كفر نبو" جعلته مقصداً لنساك آخرين تتلمذوا على طريقته

حول شخصية القديس "مار مارون" المهمة في التاريخ الديني لشمال "سورية" يقول الباحث الأثري ومستشار جمعية العاديات للفترات الكلاسيكية الأستاذ "عبد الله حجّار" لموقع مدونة وطن eSyria: المرجع الأساسي لمعلوماتنا حول "مار مارون" الذي كان أحد نساك العراء هو أسقف "قورش" "تيودوريطس" الذي كتب في كتابه /تاريخ أصفياء الله/ في العام 444 م بأنّ "مار مارون" عاش على قمة عالية كان فيه معبد وثني حُوّل بفضله إلى كنيسة وهو مكان منعزل، هذا المكان بحسب رأيي هو "قلعة كالوطة" باعتباره مكان منعزل ومرتفع عن سطح البحر 560 م وبعد وفاة "مارون" حُوّل المعبد الوثني الذي تحول لاحقاً لمعبد روماني إلى كنيسة باعتباره كان يعيش في خيمة فهذا المكان أكثر موقع تنطبق عليه ما ورد من معلومات عن "مارون".

قبر مار مارون في قرية براد

ويضيف: بعد وفاة "مار مارون" في العام 410 م أرادت القرى المجاورة الحصول على جثمانه /باعتباره عاش في مكان منعزل/ واستطاعت قرية "براد" التي كانت ثاني أكبر قرية أثرية في شمال "سورية" أخذ رفاته ودفنه في كنيسة "جوليانوس" بعد أن أُضيف إليها جناح في الجهة الشمالية الشرقية ليضم رفاته، فلو أنه عاش في "كفر نبو" كما يقول البعض لكانت للقرية الأحقية في الاحتفاظ بجثمانه.

أما الصحفي والباحث "غسان الشامي" فيقول في كتابه /في ديار "مار مارون"/ -طباعة أوفست ش.م.ل -"بيروت" 2010: «لا يمكننا معرفة العام الذي ولد فيه "مار مارون" ولكن "تيودوريطس" /أسقف "قورش"/ المولود في العام 393 م والذي كتب تاريخه حوالي العام 440 م أي بعد وفاة "مار مارون" بثلاثين سنة انطلاقاً من روايات نساك معاصرين له يصف أنّه كان معجباً بالناسك "زابينا" ويحرّض تلاميذه على زيارته ويعتبره أباه ومعلمه وطلب أن يدفن بجانبه».

التماثيل التي حطمها مارون في كفر نبو بحسب غسان الشامي

ويضيف: «"كيتيكة" أو "كيتا" أو "أكدة" /"الزيزفون" حالياً/ تقع على بعد 8 كم إلى الشمال الشرقي من مدينة "إعزاز" وقبلها بحوالي 2 كم تقع بلدة "نيارا" التي قصدها "داميانوس" تلميذ "بولكرينوس" الذي شبهه "تيودوريطس" بالشمع و"زابينا" بالخاتم، والقريتان جغرافياً تقعان في القسم الجنوبي من القورشية، واستدلالاً من كلام "مار مارون" عن "زابينا" بأنّه معلمه فإنّ بداية "مار مارون" هي في ذلك الجزء من القورشية، فالموطن الأول المعروف للقديس "مار مارون" كان في "كيتيكة" أي "أكدة" حيث يظن أن "زابينا" دفن في "شيخ ريح" قربها».

هذه هي الخطوة الأولى التي كتبها الأستاذ "غسان الشامي" وتتضمن موطنه أما الخطوة الثانية فهي بحسب ما ورد في كتابه رحلته من "أكدة" إلى قرية "كفرنبو" في "جبل سمعان"، يقول "الشامي": «قصد "مار مارون" قرية "كفر نبو" في وقت ما لا يمكن تحديده ولكنه قطعاً قبل العام 398 م أي العام الذي بنيت فيه الكنيسة من أنقاض معبد "نبو" ومن الطبيعي أن تنسّكه فيها استغرق ردحاً من الزمن قبل أن يجعل الإيمان المسيحي ينتشر بين سكانها، وتبعد "كفر نبو" عن "أكدة" حوالي 35 كم، لقد بدأ "مار مارون" تنسكه وتقشفه وتبشيره ولم يكتف بالتبشير بل حول هيكل الشياطين إلى عبادة الله وهذا دليل على تحويل هيكل "نبو" إلى كنيسة».

الأستاذ عبد الله حجار

«لقد تعامل "مار مارون" مع السكان بوداعة فكان يستمع إلى مشاكلهم ويحل قضاياهم كما كان يقدم لهم نصائح في أحوالهم النفسية، وكان لطريقة "مارون" النسكية ونجاحه في طي صفحة عبادة الأوثان من "كفر نبو" جعلته مقصداً لنساك آخرين تتلمذوا على طريقته».

وحول وفاته يقول "الشامي" في الخطوة الثالثة والأخيرة في كتابه المذكور: «في العام 410 م وبعد اثني عشر عاماً من إزاحة الوثنية من "كفر نبو" وبناء الكنيسة وبعد أن تقاطر الناس إلى "مار مارون" لشفاء نفوسهم وأجسادهم ومجيء تلامذة إليه لتتبع طريقته النسكية وسماع تعاليمه وإرشاداته وبعد أن ملأ جوار القورشية غراس الفلسفة وبعد عيشة متقشفة وجراء مرض بسيط توفي "مار مارون"، وقد هجم سكان بلدة كبيرة على حدود "كفر نبو" مباشرة واختطفوا الجثمان تبركاً وتلك البلدة هي "براد"».

ويقول الباحث "غسان الشامي": «قال البعض بأنّ "مارون" تنسك في "قلعة كالوطة" ولست أعرف سبباً وجيهاً لذلك فقلعة "كالوطة" صارت قلعة في وقت متأخر جداً وكانت ضمت قبلاً عبادة الإله "نبو" أيضاً وصارت مسيحية في القرن الخامس الميلادي وأول كنيسة بنيت فيها حوالي 40 سنة من وفاة المار "مارون" وأعلى ارتفاع في الجبل يوجد في "كفر نبو" نفسها 562 متر بينما ترتفع "كالوطة" 560 متراً ولم تكتشف تماثيل أو إشارات رغم أنها مأهولة وجرى التنقيب فيها والكنيسة التي يخبرنا بها "تيودوريطس" وأنّ "مارون" بناها بعد هدم الهيكل الوثني /هيكل "نبو"/ موجودة في "كفر نبو" الحالية وتعود إلى العام 398 م أي في الفترة نفسها التي عاش فيها "مارون" فيما يعود تاريخ أول كنيسة في "كالوطة" إلى أواسط القرن الخامس الميلادي وبالنسبة للتماثيل التي حدثنا عنها "تيودوريطس" وأخبرنا عنها "ياقوت الحموي" لا تزال في مكانها بقرية "كفر نبو" مقطوعة الرؤوس».

بينما يقول المطران "يوسف أنيس أبي عاد" رئيس أساقفة "حلب" للموارنة في كتيبه /"مار مارون"، أضواء على حياته ومنسكه ودفنه/ "حلب" 2004/: «إنّ "تيودوريطس" عندما يصف المقام الذي عاش فيه "مار مارون" يقول بأنه بعد ما قرر أن يعيش في الهواء الطلق اتخذ له قمة كانت في الماضي كريمة لدى قوم من الوثنيين حيث كان هيكل للشياطين، ومن المسلم به اليوم أنّ "مار مارون" تنسك على قمة من قمم "جبل سمعان" في شمالي "سورية" على الحدود المتاخمة لأبرشية "قورش"».

«ويقول الأب "بانيا" هذا الجبل كان عليه هيكل وثني حوّله "مارون" إلى كنيسة، والحال أنّ في المنطقة المحيطة بأبرشية "قورش" كما يشير علماء الآثار ثمانية هياكل مشيّدة على قمم الجبال هي: "كفر نبو" -"براد" -"كوريفة" /"جبل بركات"/ -"برج باقيرحا" -"جبل سرير" -"برج مهدوم" -"برسا داغ" -"قلعة كالوطة"، يجب أن نستبعد "كفرنبو" و"براد" لأنّ هياكلها كانت في وسط جماعات ريفية وكذلك يجب إبعاد هياكل "برج باقيرحة" و"جبل كوريفة" لأنهم لم يتحولا إلى كنائس، ويجب تجنب هيكل "برساداغ" لأنّه يقع داخل أبرشية "قورش" أما "جبل سرير" و"برج مهدوم" فموضعهما لا يتلاءمان مع الإطار الذي تمت فيه الأحداث التي جرت بعد موت "مارون" ولا يبقى لنا سوى هيكل "قلعة كالوطة"».

وحول استبعاده لقرية "كفر نبو" واعتماده على "قلعة كالوطة" في تنسك "مار مارون" يجري المطران "أبي عاد" مقارنة بين الموقعين ويقيس ذلك بما ورد في كتاب "تيودوريطس" /تاريخ أصفياء الله/ فيقول: «بالنسبة لموضوع قمة الجبل فقرية "كفرنبو" منبسطة على هضبة ولكنها ليست على قمة وبالنسبة للهيكل فإنّ أغلبية علماء اليوم لم يؤكدوا وجود هيكل كبير في "كفر نبو" إذ لم يعثروا على دلالات أثرية مقنعة تماماً، وكذلك فإنّ "مار مارون" عاش في عزلة تامة ولا يمكن أن تحقق حياة العزلة في محل آهل بالسكان كقرية "كفر نبو" بينما نجد "قلعة كالوطة" منعزلاً عن أي موقع سكني وقائمة على رأس جبل، وأخيراً إنّ البرهان الأهم على استبعاد قرية "كفر نبو" كمكان لتنسك المار "مارون" هو ذكر المعركة التي قامت بين السكان المجاورين للاستيلاء على جثمانه فلو كان "مارون" قد عاش وتنسك في "كفر نبو" لكان دفن فيها حصراً بحسب العادة المتبقية في المنطقة».

  • كانت مدينة "قورش" /"النبي هوري" حالياً/ في القرنين 4-5م مدينة كبيرة وعاصمة لمنطقة كانت تسمى القورشية وتمتد بين أسقفية "حلب" و"إنطاكية" وكانت تضم 800 دير في أحد مراحل تاريخها، وهي تقع إلى الشمال الشرقي من مدينة "حلب" بنحو 70 كم.