نتفق جميعا على أن كلية "الطب" هي الكلية الوحيدة التي يدخلها الجميع عن رغبة على اعتبار أنها تتوضع على رأس هرم الكليات العلمية والأدبية في القطر، وربما يكمن السر في الاحترام الاجتماعي الذي يناله صاحبها بين الأوساط أو بسبب الوفرة المادية التي تقدمها أو غيرها من الأسباب.

إلا أن السؤال المطروح هو: هل كل من يدخل كلية الطب يتمتع بكامل الحرية في اختياره، أم أن الضغوطات الاجتماعية والأسرية كانت وراءه؟

مورس معي عملية غسيل دماغ لفترة تجاوزت الاثنا عشر عاما!

يقول "زيد" وهو طالب في كلية الطب: «أنا منذ كنت صغيرا أحب كلية الطب، ودرست في البكالوريا لكي أدخل هذه الكلية، وكانت عائلتي مقتنعة بخياري والذي كان يعود لي من الأساس».

ومن جهتها تقول "رود" بأن نتائج المفاضلة العامة أدت لأن تحصل على طب الأسنان إلا أنها لم تكن ترغب بذاك الاختصاص: «وكنت أفضل الطب البشري أو الهندسة المعمارية، وعندما طرحت الأمر على العائلة فضلت أن أدخل الطب البشري عن طريق التعليم الموازي وأنا الآن سعيدة باختياري هذا».

وعما إذا كانت عائلتها قد أثرت على اختيارها أجابت:

«قالوا لي بأن لي الحرية في اتخاذ القرار سواء أكانت كلية الطب أو الهندسة المعمارية، ورغم أن أبي هو مهندس فإنني قررت أن أدخل كلية الطب».

هذه الحرية المقدمة من الأهالي لأولادهم قد لا تكون دائما متواجدة لاعتبارات عدة منها رغبة الأهل المبررة في أن يحصل أولادهم على الأفضل مما يؤدي لتدخلهم في خياراتهم، أو معرفة الأهل بأن اليافع في سن البكالوريا قد لا يتمتع بالتجربة أو الخبرة الكافية للحكم وبالتالي قد لا تكون اختياراته أو اختياراتها صائبة دوما، فهنا يقومون أيضا بالتدخل.

وبغض النظر عن أسباب التدخل، يبقى التدخل هو التدخل، بمعنى آخر، يكون التدخل بناء على ما يراه الأهل هو الأصوب لولدهم بغض النظر عن رأي الولد وفيما إذا كان قد يبدع في هذا المجال أو لا.

لن يعترفوا!

عندما قرر "eSyria" ان يفتح هذا الموضوع، كانت الصعوبة في عدم رغبة معظم الطلاب بالاعتراف، رغم إعلانهم أمام أصدقائهم بأن قرار دخولهم الكلية لم يأت منهم. وبرر بعضهم عدم تجاوبه هذا بعدم رغبته في: «جرح شعور أهلي الذين جعلوني أدخل هذه الكلية». وبرغم المبررات التي ساقوها، استطعنا طالبين من طلاب الكلية بسرد علاقة الأهل بدخولهم الكلية.

«لا بد أن أصرّح بأنني حاليا مرتاح في هذه الكلية». يقول "باسل" وهو أحد طلاب الكلية، وبتابع:

«عندما وصلت للبكالوريا كان حلمي دخول كلية الهندسة المدنية، وقد كانت دراستي على هذا الأساس، ولكن حالما اكتشف جميع من حولي أن علاماتي تخولني لدخول كلية الطب حتى تفاجأت بمحاولتهم إقناعي بدخول الكلية».

ويتابع "باسل" عن محاولات الإقناع بأنها بدأت من أخيه والذي كان يحاول إقناعه بدخول كلية الطب لأن "الطب" هو: «أعلى مكانة اجتماعية في المجتمع، والطبيب مضمون معاشه مهما ساءت به الظروف، والخوف من الندم لأني قد جمعت مجموع يخولني دخول كلية الطب ولم ادخلها».

وتابع "باسل" بأن الضغط زاد عليه حتى فضّل كلية الطب على الهندسة المدنية التي كانت حلمه.

«عندما دخلت السنة الأولى كنت نادما على اختياري هذا، ولكني بدأت الاعتياد على الكلية مع السنة الثانية وأصبح لي العديد من الأصدقاء وحاليا أنا أعتبر نفسي سعيدا بوجودي في هذه الكلية».

وقال بأن ما جعله مترددا في دخول الكلية في الأساس كان: «المدة الزمنية الطويلة للدراسة إضافة إلى أن الاختصاص نفسه يحتاج إلى مفاضلة خاصة مما قد يجعلني أدخل اختصاصا لا أريده لمجرد أن مجموعي أقل من مجموع الاختصاص».

أما "نور" فقصته قريبة نوعا ما لقصة "باسل" حيث يقول:

«كنت أعيش في "المملكة العربية السعودية" وكان مجموعي كبيرا لدرجة يؤهلني لدخول أي اختصاص أرغبه في الجامعات السورية، وكان حلمي أن أدخل إما كلية الهندسة المعلوماتية أو أي اختصاص له علاقة بالرياضيات على اعتبار أني أحب التعامل مع الأرقام».

ويتابع أن حملة الإقناع بدأت عندما بدأ الكل يلقبه بلقب "دكتور" برغم أنه لم يتقدم للمفاضلة بعد.

«لا يوجد في العائلة طبيب لذا بدأ الجميع بإطلاق لقب "الدكتور" تجاهي مما اضطرني لدخول الكلية وأنا غير راض، وقضيت الأسبوعين الأولين بشكل سيء للغاية إلا أنه بعد تلك الفترة بدأت بالتعرف على الشباب هنا وعلى اعتبار أنني سأقضي فيها بقية دراستي فقررت الاعتياد على حبها، وأنا الآن مرتاح وسعيد فيها بعد مرور كل هذه السنين».

ويعترف بأن ضغط الأهل والأقارب دفعه لدخول الكلية حيث يقول: «لو عاد الأمر لي لما دخلتها قط، ولكن رغبات وأمنيات الأهل هي ما دفعني لهذا».

سحر كلية الطب!

لكلية "الطب" سحر لا يمكن إنكاره للجميع، والمركز الاجتماعي الذي تقدمه أعطي للعديدين الحافز لدخول الكلية.

«عندما يكون الطفل ذي عمر ست سنوات، يقول بأنه يرغب بأن يصبح طبيبا!» يقول "حسام" وهو طالب في السنوات الأخيرة في الكلية، ويتابع:

«ما الذي يجعل الطفل يرغب بهذا وهو لا يعرف ما تعنيه كلمة طب! أنا من جهتي أكتب الشعر إلا إنني لم أرغب بدخول كلية الآداب لأني أعتبر أن مستقبل الطبيب أفضل من مستقبل خريج كلية الآداب».

ويكمل "حسام" كلامه الصريح معنا ويتابع بالقول:

«عندما يدخل المهندس مثلا، يقوم الناس بالسلام عليه باحترام. ولكن عندما يدخل الطبيب يقفون ويسلمون! المجتمع يقدم لك الفكرة السحرية عن الطبيب منذ أن تكون صغيرا، وبالنسبة لي فأنا قد قدمت فحص البكالوريا لعامين متتاليين حتى حصلت على علامات تخولني دخول كلية الطب بعد أن حصلت على كلية الهندسة المعمارية في العام الذي قبله».

وعن سبب دخول الشباب والفتيات لكلية الطب من وجهة نظره، يجيب:

«عندما يكون الإنسان فقيرا ولا مال لديه أو مركز اجتماعي مرموق، يدرس للحصول على هذا المركز والذي يتجلى بصورة عظمى في كلية الطب، أنا لا أقول بأن هذا خطأ ولكن في هذا الزمن الصعب، يعتبر الطب ذو مردود مادي ممتاز مقارنة بأي مجال دراسة آخر».

غسيل دماغ!

«مورس معي عملية غسيل دماغ لفترة تجاوزت الاثنا عشر عاما!». يقول الدكتور "باسل" والذي يختص حاليا في قسم الأذنية، ويتابع القول:

«بصراحة لم يجبرني أبي على دخول كلية الطب، بل كان يحاول طوال السنين الأولى من حياتي بأنه ليس لي خيار إلا الطب في هذه البلاد، ولكني الآن وبعد عشر سنوات قضيتها ما بين دراسة واختصاص أجد نفسي أقول بأني لو كان الزمن يعود لي للوراء ما كنت اخترت الطب وكنت فضلت عليها الصيدلة أو أي فرع من فروع الهندسة».

أما قصة الدكتور "سامر" الذي يختص في قسم الأشعة فلم تكن بعيدة عن صديقه حيث يقول:

«في السنة الأولى في البكالوريا كان مجموعي يؤهلني لدخول كلية الهندسة المدنية، وقمت بإعادة البكالوريا حيث حصلت على مجموع يؤهلني لدخول كلية الطب إلا أنني فضلت أن أدخل كلية طلب الأسنان، ولكن تحت إلحاح أهلي وضغطهم علي غيرت المفاضلة لتصبح كلية الطب».

تشاور مع أهلك!

ويبقى السؤال المهم: هل من احد حصل مجموع كلية الطب ولم يدخلها؟

"إبراهيم" استطاع القيام بهذا وعن هذا يقول:

«عندما درست في البكالوريا، كان الهدف هو الحصول على مجموع يؤهلني لدراسة كلية "الهندسة الطبية" وهي فرع من الهندسة مختص ومتعلق بالأجهزة الطبية، وقد كان مجموعي في المرحلة الثانوية هو /235/ من /240/ في الفرع العلمي وكانت آنذاك أكثر من كافية لدخولي كلية الطب، إلا أنني فضلت كلية الهندسة الطبية. ولأن دراستها هي في مدينة "دمشق" حصرا فقد رفضها أهلي كونهم لم يريدوا ابتعادي عنهم، فقررت دخول كلية الهندسة الكهربائية كونها قريبة من ذاك الاختصاص ومناسبة لعمل عائلتي».

ويتابع "إبراهيم" بالقول بأنه خلال سنته الأولى جاءته منحة للسفر إلى ألمانيا لدراسة الهندسة فيها على اعتبار أنه كان صاحب "أعلى مجموع في كليّته" إلا أنه لم يستطع السفر بسبب عدم رغبة أهله أيضا في تركه يسافر ويبتعد عنهم.

«عندما قررت دخلت كلية الهندسة، نلت موافقة ومباركة أهلي الكاملة لقراري، إلا أن المجتمع والأصدقاء من حولي كان لهم رأي آخر، فقد حاولوا الضغط على لدخول كلية الطب أو الصيدلة على اعتبار أنني قد حصلت على المجموع المؤهل لهما، ولكنني رفضت».

ويعلل سبب الرفض بأن دراسة الطب تستهلك الكثير من السنين ما بين الكلية والاختصاص أما الصيدلة فقد فقدت ميزتها السحرية حيث تحول الصيدليات إلى «سوبر ماركت يديرها صيدلي لا أكثر» على حد تعبيره.

«أما أطرف ما حصل معي» يتابع "إبراهيم" «فهو عند موعد تقديم المفاضلة حيث قام الموظفون المسؤولين عن استقبال أوراق المفاضلة برد الورقة ثلاث مرات إلي والطلب مني "مشاورة أهلي" فقط لمجرد أنني لم أذكر كلية الطب في قائمة رغباتي وفضلت عليها الهندسة!».

لاننكر أن سحر لقب دكتور يسري تقريبا على جميع الناس، ولكن يجب أيضا أن ننظر للناحية الأخرى من الحكاية!

فهل ما زال خريجو الطب قادرين على تأمين عمل في ضوء العدد المتزايد عاما بعد عام ؟ وهل ما زالت كلية الطب هي حلم المستقبل المادي المضمون في ضوء غلاء المعيشة وعدم لجوء الناس إلى الطبيب إلا وهو على شفا الموت؟ لا بد من التفكير بخيارات أخرى خلا الطب لأن المجتمع بحاجة إلى كل الاختصاصات والأعمال ليتكامل المجتمع ويتطور.