يصعب أن يتوارى في اللاشعور، فهو الزمن الجميل الذي ترك بصماته وذكرياته محاولة لمعايشته واستحضار مفرداته، ترك ذلك كله بداخلنا وفي بؤرة الشعور، ولأن الرحيل كلمة موجعة، فهو زمن لم يرحل عن محبيه، زمن النغم الوقور والفخامة والاعتزاز بالذات والمظهر، مظهر الإنسان في أجمل صوره، فأفرز هذا الزمن واحدة من أعرق الصناعات، وهي صناعة "الطرابيش"،

إحدى سمات جمال المظهر في زمن ما، الصناعة التي بدأت في حي "الميدان" و"المرجة" الأحياء التاريخية والسياحية التي يصعب وجودها في أي من العواصم العربية، باستثناء القلة منها مثل المغرب والقاهرة.

الطرابيش صناعة قديمة وتراث دمشقي قديم له نوعان، بعضها يصنع من الصوف المضغوط "اللباد" أو من الجوخ الملبس على قاعدة من القش أو الخوص المحاك على شكل مخروط ناقص، ويتدلى الطربوش الشرقي من جانبه الخلفي حزمة من الخيوط الحريرية السوداء تدعى "الشراشيب"

فريق "دمشق القديمة" وبتاريخ 24/4/2009 تجول في أسواق "دمشق القديمة" ليذهب وراء قصة عمرها أكثر من خمسة قرون هي صناعة "الطربوش"، والتقى مع صاحب إحدى المصابغ "نبيل أبو شيخ" الذي يعمل في هذا "الكار" منذ أكثر من أربعين سنة، وليحدثنا عن أنواع الطرابيش وطريقة تصنيعها: «الطرابيش صناعة قديمة وتراث دمشقي قديم له نوعان، بعضها يصنع من الصوف المضغوط "اللباد" أو من الجوخ الملبس على قاعدة من القش أو الخوص المحاك على شكل مخروط ناقص، ويتدلى الطربوش الشرقي من جانبه الخلفي حزمة من الخيوط الحريرية السوداء تدعى "الشراشيب"».

إن رحلة البداية لـ"الطربوش" كان في فترة دخول الدولة العثمانية إلى مدينة "دمشق"، حيث ازدهر فيه بشكل كبير وعن هذه البداية يقول الحاج "نبيل": «"الطربوش" دخل إلى "دمشق" في ظل الدولة العثمانية وبالتحديد في عهد السلطان سليمان القانوني الذي أصدر مرسوماً بتعميم ارتداء الطربوش بالنسبة للرسميين من أبناء السلطة العثمانية، ثم انتشر بعد ذلك بين كافة الشعب، وأخذ مكانه فيما بعد على رؤوس "بكاوات" و"باشاوات" سورية في أوائل القرن الماضي».

يتابع "الحاج "نبيل" حديثه وهو يمسك بين يديه طربوشاً أحمر اللون: «انتشرت صناعة الطربوش بشكل مكثف قبيل القرن التاسع عشر إبان فترة الحكم العثماني أيضاً، وأصبح من المعتاد وضع الطربوش الأحمر على رؤوس الرجال، وهو في الأصل ابتكار عربي لغطاء الرأس، إذ ظهر الطربوش الأحمر لأول مرة في منطقة المغرب العربي، وحل محل العمامة والحطة والعقال، لكن الرئيس التركي آنذاك "كمال أتاتورك" أصدر أمراً بمنع استعمال الطربوش الأحمر المعروف بقانون "القيافة" في عام 1926 لتحل محله القبعات الغربية».

وعن استخدامات "الطرابيش" في الفترة الحالية يقول "نبيل أبو شيخ": «ينحصر استخدام الطربوش حالياً عند رجال الدين الذين يضعون العمامة البيضاء أو الملونة السادة أو المنقوشة حول الطربوش،‏ وما يزال الطربوش موجوداً في نطاق ضيق ويباع في المحلات التراثية حيث تستخدمه فرق الإنشاد والفرق الفلكلورية والمسلسلات الشامية التي نشّطت إلى حد ما الاهتمام به وإنقاذه من الانقراض».‏

الطرابيش كان له عدة دلالات نفسية تعكس الحالة المزاجية على كل من يرتديه، بالإضافة إلى تحديد الانتماء الجغرافي والمستوى الاجتماعي للمواطنين وعن هذا يقول الحاج "نبيل" الذي يقع محله في "سوق مدحت باشا" وسط مدينة "دمشق القديمة": «‏يشير تغير وضع الطربوش على الرأس إلى المزاج النفسي أو أهمية الطرف المقابل، وربما نوعية القضايا التي يجري بحثها، فالطربوش إذا كان مستقيماً وثابتاً له معنى يتوافق مع الاستقامة، وإذا كان مائلاً إلى الخلف فيدل على المزاج الرائق، ولا يخلو من الرغبة في التوجيه أو السخرية، ومثلما لوضعية الطربوش على الرأس دلالة، فإن نوع الطربوش يحدد الانتماء الجغرافي والمستوى الاجتماعي، فطربوش "نابلس" يختلف عن طربوش "الشام"، الأول أكثر دكنة وأطول إضافة إلى أن نهايته أدق، أما الطربوش الشامي فأقصر من حيث الارتفاع وأكثر توهجاً، إذ يبدو كالبطيخة الناضجة، كما إن موقعه قابل للتغيير تبعاً للخطة ونوع الحديث والشخص المقابل».‏

كان يعكس الطربوش "الدمشقي" الذي تميز بالتطريز بالخيوط الذهبية على حوافه رمزاً اجتماعياً وثقافياً خاصاً لمناخ مرحلة من مراحل "دمشق" بصفة خاصة، والذين كانوا يرتدون "الطرابيش" كان يمتلكون موقعاً مهماً في المستوى الاجتماعي والسياسي، وهنا يعود "نبيل أبو شيخ" إلى ذاكرته القيمة ليحدثنا عن رجال تلك الفترة فيقول: «كان الطربوش ضرورياً لاستكمال المظهر الرسمي عند الموظفين الحكوميين، إلى أن انتهى استخدامه بعد الاستقلال، وبقي في سيرة الذاكرة الشعبية والتراث، فكان الطربوش يميز من يعمل في وظيفة رسمية عالية، ورؤساء الوزارات والوزراء وكبار الموظفين أياً كانت اعتقاداتهم اعتمدوا الطربوش زياً رسمياً وحرصوا على وضعه على رؤوسهم، فوضعه على رأسه مثلاً "شكري القوتلي" و"بشارة الخوري"، ولم يقتصر الطربوش على ذوي الوظائف الرسمية الكبيرة وحدهم، كان لصاحب الدخل المحدود طربوش واحد، وللشخص الغني طرابيش كثيرة تتفاوت من حيث اللون والمقاييس وأوقات الاستعمال، ولذلك كانت صناعة الطرابيش مزدهرة ولها أربابها».‏

المهتمون بشراء الطربوش السوري هم من العاملين في مجال الإنتاج التلفزيوني، والفلكلوري الشعبي، وحالياً نرى موجة من السياح يتهافتون إلى شراء الطرابيش في أسواق "دمشق" فما سر اهتمام الأجانب بـ"الطرابيش" عن ذلك يقول الحاج "نبيل": «"الطربوش" له حضوره القوي كسلعة أثرية يتهافت عليها السياح وأهل البلد، والطريف أن الكثير من السياح يرتدونه على امتداد الشواطئ بدلاً من القبعات لحمايتهم من وهج الشمس في منتصف يوم جميل، أما في المساء ترتديه الأجنبيات في حفلات السمر والحفلات التنكرية تحت شعاع فضي لقمر مكتمل في الليالي الدمشقية الطويلة».

هل رحل "الطربوش" مع رحيل تلك الأيام أم بقي في ذاكرة ووجدان الدمشقيين وزوار دمشق؟..

عن ذلك يجيبنا الحاج "نبيل": «لم يرحل فهو رمز وشكل ومفردات لمكان وزمان ما في منطقة "الميدان" و"المرجة" و"الصالحية" يتواجد كسلعة سياحية يبتاعها السياح، وبقايا الناس الذين عشقوا زمناً ولى، وما زالوا يحتفظون به في منازلهم كقطعة أثرية عريقة كان يرتديها كبار هذه الأسر ومعه القرنفلة والعصا الأبنوسة السوداء اللامعة».