تعد زراعة القمح من الزراعات الاستراتيجية في سورية، نظراً لدورها الكبير في تحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي، وللقمح في سورية أنواع، إلا أن "القمح الحوارني" يعتبر من أشهر الأقماح المحلية، لقدم زراعته عبر التاريخ، وارتباطه الوثيق بالتراث، وتمتعه بصفات جيدة، لا تمتلكها أصناف هجينة أخرى. وقد وصفه العالم "بركهات" الذي زار "حوران" عام 1810م بأنه ناتج اقتصادي عالمي.

يقول السيد "تيسير الفقيه"، من أهالي مدينة "طفس"- باحث في قضايا التراث والمجتمع الريفي: «أثبثث الدراسات أن "حوران" الموطن الأصلي لزراعة القمح، حيث كان ينمو بشكل نباتات طبيعية، ثم انتشرت زراعته لسهولة جمعه واستخراجه بطرق بدائية، واشتهرت "حوران" به منذ أقدم العصور، وكان الغذاء الرئيسي لسكان معظم الحضارات القديمة، ما أثار الحروب والنزاعات بينها، للسيطرة على هذه المنطقة، وضمها إلى مناطق نفوذها».

كان القمح الحوراني يزرع بمساحات واسعة في أغلب المحافظات السورية، ولاسيما في محافظة درعا التي ينسب إليها، مشيراً إلى أن تربة "حوران" الخصبة ومناخها الملائم ساعدا هذا الصنف على الاستمرار والتميز

وحول تاريخ القمح الحوراني ذكر السيد "نضال شرف" باحث في قضايا التراث لموقع eDaraa بتاريخ 4/6/2010: «عرفت "حوران" زراعة القمح منذ آلاف السنين، وهو ما أكده العالم الروسي "فيفلوف" عام 1931، حيث بدأت زراعة القمح الأولى في منطقة "حوران"، وتحديداً حول نهر "اليرموك" و"الزيدي" و"الهرير" و"العلان"، وتطورت الأدوات المستخدمة في الزراعة منذ الألف التاسع قبل الميلاد، وهو ما تشير إليه أدوات الصوان الخاصة بالحصاد وأحجار الطاحون التي تم العثور عليها، وأن مدينة "عشترة" الأثرية في "حوران" كانت مصدراً لهذه الزراعة، حيث نقشت السنابل على النقود، ووضعت حزم القمح في البيوت تكريما لهذا المنتج».

من أدوات القمح

وأضاف "شرف": «إن ابتكار المحراث خلال الفترة الرومانية، واكتشاف الدورة الزراعية، واهتمام الرومان والغساسنة بتطويرالأرض ودعم الفلاح، أدى إلى زيادة كبيرة في إنتاج القمح، حيث سميت "حوران" إهراءات "روما"، وكان إنتاج "حوران" من القمح يكفي حاجة "روما"، ويصدر قسم منه إلى "مصر"، ويخصص قسم من ريع الإنتاج لخدمة المعابد وإقامة الطقوس الدينية، أما أسواق "حوران" مثل سوق "بصرى" وسوق "أذرعات" وسوق "دير أيوب" فقد أسهمت في تنشيط التبادلات التجارية، وتصدير "القمح الحوراني" والطحين إلى الكثير من مناطق العالم. وفي العهد الإسلامي وتحديداً في زمن الخليفة "عمر بن الخطاب" أصبح القمح الحوراني دعامة من دعامات اقتصاد الدولة، وتشير كثرة الخانات في "حوران" خلال فترة المماليك، ووجود عشرات المطاحن المائية على مصادر المياه، إلى أهمية القمح الحوراني بالنسبة لتلك الشعوب».

وقال "شرف": «اعتمدت الدولة العثمانية على القمح الحوراني، وأقامت محطات لجمع الضريبة خاصة في "المزيريب" و"دير أيوب"، ومع بداية استخدام السكك الحديدية أنشئت مراكز لجمع الحبوب من "حوران" لدعم الجيش. كما نشطت زراعة القمح في "حوران" خلال الحرب العالمية الأولى، وكانت كميات القمح تشحن عبر القطارات إلى "اسطنبول" وأدى نقص القمح الحوراني، وتوقف الأفران عن إنتاج الخبز، واحتكار ما تبقى في الخانات إلى ثورة دمشق عام (1747م)».

المهندس غالب الجهماني

وفيما يتعلق بارتباط القمح الحوراني بالتراث ذكر "شرف": «منذ فجر التاريخ، ظهر الأدب الشعبي للتعبير عما حوله وما يحيط به فجاء التعبيرعلى شكل أساطير وقصص وحكايا وشعر لتنشيط العقل، وخاصة عن طريق الخيال، وتجلى في أغلبه حول العمل بالأرض والقمح ورغيف الخبز، وارتبط ارتباطاً وثيقا بالتراث الحوراني، من الزراعة إلى التسويق، ففي مجال الزراعة يعد شهرا كانون الأول وكانون الثاني أفضل مواعيدها، ليستفيد القمح أطول فترة زمنية من حياته الموسمية، ويفضل الفلاح الزراعة قبل سقوط المطر على قول المثل (لا فاتك العفير سنة لا تفوته)، أما بالنسبة لموعد الحصاد فيبدأ في شهر حزيران، ويقول المثل (حزيران فيه الحصاد والنيران)، وكذلك المثل القائل (بقران خمس وعشرين أحصد قمحك ولا تلين)، حيث تقترن الثريا مع القمر وتكثر أيام الندى والرطوبة ويستفاد منه بعملية الحصاد، إضافة لذلك تستخدم العديد من الأمثال الشعبية المرتبطة بالحياة الاجتماعية أهمها: (عاجنك وخابزك) أي يعرف خفايا الأمور، وكذلك المثل القائل (طلع مثل الشعرة من العجين)، أي ينسحب الشخص من موقف ما دون أي إشكال بسهولة، والمثل الذي يقول (أعطي الخبز لخبازو ولو أكل نصّو)، وهذا دليل المهارة في الصنعة، ومن الأمثلة (رغيف برغيف ولا ينام جارك جوعان)، ويعني حب الجار واحترامه، وقيل أيضا (خبز حاف ما بربي كتاف) أي إن الفلاح يحتاج لطعام مع الخبز، وعن نعمة الخبز يقال (الخبز مرزوق والخير مرزوق)، وبشأن أهمية الخبز يقال (خبز الرجال ع الرجال دين وع النذل حسنة)، ويقول الفلاح كذلك (اللي بيوكل من خبز السلطان بدو يضرب بسيفو)، ويقال بحق الرجل العبوس (ما بيضحك للرغيف الساخن)، ويقال لصاحب الطمع (بيرمي كسرته ع رغيف)».

أما بالنسبة لأغاني الحصاد فأضاف "شرف": «تتميز أغاني الحصاد باللحن القصير، لتزيد سرعة الرجال في عملهم، وهناك إيقاع طويل يقال بين الفلاحين أثناء التعب، عندما تبدأ حرارة الشمس عند الظهيرة بالارتفاع، ومن الأغاني المعروفة يقال:

فطائر بالقمح الحوراني

منجلي يا من جلاه/ راح للصياغ جلاه

ما جلاه إلا بعلبة/ والعلبة راحت فداه

وحزين طراد الهوى/ ولا صار ما هو نايلاه

اني الشايب واني العود/ واني بالفين ممدود

واني وإن ماتت حيالي/ يا هاظة الزرع ماجود».

وفيما يخص الشعر وارتباطه بالقمح قال "شرف": «عكس الشعراء في شعرهم حالة الفلاح، ونقص المطر، وكيفية جمع الضريبة، كما وصف الشعر حبات القمح الذهبية، ومقاومة الفلاح للعثمانيين والفرنسيين، فقال الشاعر "رشيد الخوري" يشيد ببطولات الفلاح وثورته:

من قمح حوران أراد وليمة / فأتاه سم الموت من حوران

حوران هبَّ إلى الحسامِ كأنما/ هو وحده العاني وأنت الهاني».

وحول صناعة القمح الحوراني يقول "شرف": «يعتبر القمح الحوراني مادة أساسية للكثير من الصناعات التراثية، التي لا يزال يتقنها البعض، ومن هذه الصناعات: صناعة رغيف الخبز بأنواعه المختلفة (المهاميد– الكماج– المردد– المرشم)، إضافة لصناعة المعجنات والمعكرونة، وهو النوع المفضل "للمجدرة" والبرغل والفريكة، كما يستفاد من سوقه في صناعات منزلية كثيرة "كمناسف القش" و"المغمقان" واللوحات الجدارية وغيرها من أدوات الزينة».

وفيما يتعلق بالمواصفات الفنية للقمح الحوراني، حدثنا المهندس الزراعي "غالب الجهماني" قائلاً: «كان القمح الحوراني يزرع بمساحات واسعة في أغلب المحافظات السورية، ولاسيما في محافظة درعا التي ينسب إليها، مشيراً إلى أن تربة "حوران" الخصبة ومناخها الملائم ساعدا هذا الصنف على الاستمرار والتميز».

وأوضح "الجهماني" أن صنف القمح الحوراني صنف ربيعي مبكر ذو طور خضري وإنتاجي قصيرين، سنابله بيضاء مصفرة مكتظة عالية الخصوبة، ساقه فارغة، وتبنه جيد جداً للاستهلاك الحيواني، نظراً لما يتميز به من طراوة ونعومة، متوسط طوله من 100 إلى 130 سم، وزن الحبة الواحدة من 40-50 ملغ، العمر من الإنبات حتى الحصاد حوالي 190 يوماً، وهو حساس للإصابة بمرض الصدأ الأصفر، وصدأ الساق الأسود، والتفحم المغطى إذا صادفت ظروف ملائمة لانتشار هذه الإصابات، مشيراً إلى أن هذا الصنف من القمح هو أقل حساسية للتفحم السائب، وغير مقاوم للضجعان، ويتميز بمقاومته للصقيع وتحمله للجفاف وللحرارة المفاجئة المرتفعة، في طور الخزن الغذائي للحبوب، ويتميز هذا النوع من الأقماح بارتفاع نسبة البروتين حيث تقدر من 12.3 إلى 14.4 بالمئة، وهو غني بالغلوتين، ومطلوب عالمياً لما يتمتع به من الصفات التكنولوجية العالية، وللقمح الحوراني صفة وراثية هامة تتمثل بميله للعطاء والتوافق الكبير مع الأصناف الأخرى في برامج التربية حيث يعتبره علماء التربية مورثاً ممتازاً في البرامج البحثية، ويستطيع إعطاء صفاته للأصناف الأخرى المشاركة في برامج التربية بسهولة، ويقدر إنتاج الهكتار الواحد منه بين 1500 و2000 كيلوغرام».

وحول أبرز ميزاته ذكر "الجهماني": «يرجع القمح الحوراني إلى العائلة النجيلية، وهو من مجموعة الأقماح ذات المكسر القرني الملائمة للزراعة في ظروف مناخية معتدلة، مقاوم للجفاف، عشبي حولي جذره ليفي، تجود زراعتة في تربة "حوران" البركانية الناشئة من تفتت البازلت الغنية بمادة الحديد، ويتميز القمح الحوراني بعدد من الصفات الظاهرة والوراثية أهمها: سنبلة بيضاء مصفرة مكتظة بحبات القمح الذهبية، وساق فارغة تعطي منتجاً تبنياً علفياً مميزاً عالي الجودة، ومقاوماً للجفاف والضمور بسبب تحمله للحرارة المرتفعة المفاجئة في طور الخزن».

أما الفلاح "محمد سعيد الأيوب" من أهالي مدينة "نوى"، فقد تحدث حول تجربته الخاصة في زراعته فيقول: «أزرع القمح الحوراني منذ أكثر من 50 سنة، وكنا نقوم باستخلاص البذور في نهاية البيدر، باختيار الحبات الكبيرة، ذات المواصفات الجيدة، ونقوم بزراعتها في الموسم القادم، من أجل الحصول على بذور ذات نوعية أفضل للموسم الذي يليه، إلا أنه في السنوات الأخيرة انحسرت زراعته، نتيجة لسنوات الجفاف، ولعدم ملاءمتة للزراعات المروية، ولظهور أصناف جديدة (شام 3 وشام 1 ودوما 1) أكثر إنتاجية في وحدة المساحة».