مجموعة من سنابل القمح حاكتها أيادٍ حرفية مع بعضها، لتشكل عند البعض تأريخاً لحياتهم الاجتماعية التراثية، ولتكون برأي البعض الآخر بركة من عطاء الله في الساحل السوري.

«بعد كل موسم حصاد في الريف الساحلي يعمد الأهالي إلى صناعة ما يسمى باللغة التراثية "مشط القمح" وفق طريقة فنية حرفية، ليعلقوه في منازلهم الريفية التراثية»، وهذا بحسب السيد "محمد علي" من أبناء ريف مدينة "بانياس" لما له من قيمة تراثية اجتماعية توارثوها عن الأجداد، وأضاف لمدونة وطن eSyria بتاريخ 6/3/2013 قائلا: «في صغري كثيراً ما كنت أرى والدي يهتم بمجموعة من سنابل القمح التي كان يحضرها من البيدر وهو المكان الذي تجمع فيه سنابل القمح بعد حصادها ليتم استخراج الحبوب منها وفق عملية "درس الزرع"، ويقوم بعد ذلك بحياكتها مع بعضها بعضاً بطريقة مميزة تتداخل فيها الأغصان مع رأس السنبلة مشكلة ما يشبه مشط الشعر الذي عرف في تلك الفترة بشكله المميز الذي يشبه جسد السمكة الصغيرة. وبعد الانتهاء من الحياكة كان يضعه داخل المنزل في مكان يراه الجميع، وكان يقول: "من بركة موسم القمح لهذا العام والحمد لله».

بعد كل موسم حصاد في الريف الساحلي يعمد الأهالي إلى صناعة ما يسمى باللغة التراثية "مشط القمح" وفق طريقة فنية حرفية، ليعلقوه في منازلهم الريفية التراثية

ويتابع السيد "محمد": «أعتقد أن حب أبناء الريف الساحلي لحبوب القمح التي هي مورد هام في معيشتهم، وقدسية هذه الحبوب في نفوسهم ومعتقداتهم التي أدركوها في كتاب الله "القرآن الكريم" كانت سبباً مهماً للعناية والمحافظة على هذه النعمة الربانية، وهو ما أدركته عندما أصبحت رب أسرة تحتاج إلى القمح لصناعة الخبز والطعام اليومي، وأذكر أني احتفظت بمشط قمح في منزل أسرتي عدة سنوات».

الباحث التراثي "حسن اسماعيل"

أما الجد "يوسف نعمان" فقد قال: «أذكر أني صنعت "مشط القمح" سنوات عدة عندما كنت أقيم في القرية القديمة قبل أن يتجدد سكننا في المنازل الأسمنتية، وكنت أهتم كثيراً بانتقاء سنابل القمح الجميلة لجمعها بما يعرف باللهجة المحلية "الغمارة"، وأصنع منها "مشط القمح" التراثي ليكون بمثابة تقويم سنوي أهتدي به لمواسم الحصاد التي كانت تمر على أبنائي، لأقدر أعمارهم بتعداد مواسم الحصاد التي مرت، وأنا واحد من أبناء الريف الذين سجلوا في السجل المدني بعد مرور حوالي ثلاثة مواسم حصاد، وهذا أمر كان مقبولاً ومعترفاً به خلال مخاطبة كاتب السجل المدني، فكان يسأل عن عدد مواسم الحصاد التي مرت على الصبي قبل تسجيله وإن صنع له "مشط قمح" في موسم ما، وبناء عليه يتم تقدير عمر الصبي».

وفي لقاء مع الباحث التراثي "حسن اسماعيل" قال: «لقد كان وما زال لحبوب القمح وسنابلها قدسية خاصة في نفوس أبناء الريف، حيث تجلت بصناعة "مشط القمح" التراثي الذي كان موجوداً في كل منزل ريفي كما أثاث المنزل، وقد أطلق عليه عدة تسميات اختلفت باختلاف المناطق والقرى التي يصنع فيها، ومنها "مشط الفريك" حيث كانوا يقولون مثلاً "بيت أبو فلان وضع مشط الفريك لهذا الموسم على عتبة منزله وهذا فأل حسن إن شاء الله"، وأيضاً أطلق عليه اسم "الباقة" وهي مجموع سنابل القمح غير المجدولة أو المصنوع منها المشط، فصاحب المنزل لم يجدلها بعد أو أنه لا يعلم طريقة جدلها، أو أن خطباً أصابه هذا الموسم».

مشط قمح مربع

أما الباحث التراثي "برهان حيدر" فقد قال: «هناك نوعان للمشط هما "مشط القمح" و"مشط الشوفان" هذا النبات الذي لم يعد هناك من يزرعه في وقتنا الحالي، حيث كان فيما مضى مصدر علف هام للمواشي، وقد صنعت منه الأمشاط أيضاً لتبقى ذكراه موجودة في كل منزل ريفي لفضله في حياتهم الاقتصادية. ومن ناحية أخرى لقد تفنن أبناء الريف الساحلي بصناعة هذه الأمشاط، فمنها مربعة الشكل، ومنها البيضوي، ومنها ما هو بشكل مثلث، وهي أشكال اختارها صانع المشط من وجهة نظره الخاصة ولم ترتبط بأي شيء على أرض الواقع».

وعن طريقة صناعة "مشط القمح" قال: «تبدأ حياكة وصناعة هذا المشط من نقطة المنتصف حيث يلف الحرفي السنبلة من منتصفها ويأخذها نحو اليمين ويضع فوقها سنبلة أخرى، ويلفها على السابقة ويأخذ رأسها بالاتجاه المعاكس للسنبلة السابقة، ويتابع بذات الطريقة حتى يصنع المشط الذي يختار شكله وحجمه، وهذا أمر كان يتكرر في كل موسم حصاد ليكون بمثابة تقويم خاص يحدد من خلاله البعض سكنهم في المنزل مثلاً أو أعمار أبنائهم وغير ذلك، في حين أن البعض الآخر كان يكتفي بمشط واحد فقط ويكون بمثابة بركة حبات القمح صاحبة الفضل عليه وعلى أسرته».

الباحث التراثي "برهان حيدر"