تعدّ الحرف اليدوية باب نجاة للكثير من الأسر في ظلّ الظروف الاقتصادية الحالية، حيث لم تعد هذه الحرف حكراً على الرجال، فقد تزايد عدد النساء العاملات في المهن الحرفية واليدوية مقارنة بالسنوات السابقة، واللافت أن بعضهن في العقد السادس من العمر وما فوق، ليشكل عملهن رافداً اقتصادياً هاماً لأسرهن.
إعادة تدوير
"هدى حبيب" 66 عاماً، من قرية بعمرة التي تتبع لمحافظة طرطوس، تعلمت صناعة السلال والأطباق منذ 10 سنوات، عندما لفت انتباهها قاعدة دائرية مصنوعة من قشور الذرة، تضع جارتها عليها إبريق المتة الساخن، فقررت صنع قاعدة مماثلة، وكانت نقطة الانطلاق.
قامت "حبيب" فيما بعد باستعمال لحاء الموز في العمل، لسلاسته وقوته في صنع الأشغال اليدوية، فاستعملت اللحاء مع قشور الذرة، وكوّنت منها أشكالاً يدوية تصلح للاستعمال المنزلي، من سلل وأطباق بأحجام وأشكال مختلفة، إذ إن توافر هذه المواد في حديقتها كان حافزاً مشجعاً، فلدى السيدة شجرة موز كبيرة أمام منزلها وعندما يقطع زوجها الجذوع، تقوم بتقشيرها والعمل بها.
تعمل "حبيب" في مجالات أخرى إلى جانب صناعة السلال والأطباق، فمنذ أيام الصبا استخدمت في الحياكة إبرة الصنارة (التنتنة) وأيضا الصنارتين (الصوف)، كما أحاكت عدة مفارش لطاولات السفرة، ومفارش أسِرَّة، وقامت بإعادة تدوير الأقمشة لتصنع منها سجاداً بمقاسات مختلفة، ولهذه الأعمال مكانة وخصوصية في قلب "أم رفاه"، والنتيجة قطعة مشغولة بإتقان مجبول بحب المهنة، ما ينعكس على جمالها وعلى إعجاب الجميع بها.
صعوبات تسويقية
وتتابع "حبيب" حديثها قائلة: "هذه الحرفة جميلة جداً رغم صعوبتها، فقد ملأت وقت فراغي خاصة بعد تقدمي في السن، وعلى الرغم من أنها لم تحقق لي الاكتفاء المادي كما يجب، لكنها أعانتني نوعاً ما، ومما لا شك فيه، فإنّ لهذه المهن دوراً هاماً في تعزيز المهارات التي تؤمن فرص عمل للأفراد بشكل عام والنساء بشكل خاص، ما يسهم بتنمية الاقتصاد المحلي".
وتشير حبيب إلى أن صعوبة التسويق تشكل عقبة حقيقية أمام تصريف المنتج، حيث يتم الترويج لمعظم منتجاتها وبيعها من قبل الأقارب، معربة عم أملها بحلّ مشاكل التسويق من خلال إقامة معارض خاصة أو سوق شعبية تضم تلك المنتجات ومثيلاتها من الحرف اليدوية.
وتلفت إلى مشاركتها في معرض "السنابل" الذي يتم بشكل دوري في قريتها بعمرة وفي عدة معارض أخرى، لعرض منتجاتها وبيع بعضها، مشجعة النساء على الدخول إلى عالم الحرف اليدوية، والعمل في أي مجال يبرعن فيه للعيش بكرامة، وبرأيها لا يختلف عمل المرأة عن عمل الرجل، فكلاهما في خندق واحد في ظل هذه الظروف الصعبة.
مهن شاقة
من صناعة السلال والأطباق إلى صناعة التنور الطيني، وهي المهنة التي تتطلب القوة البدنية والدقة، يرى البعض أن عمل النساء بها (اقتحاماً)، وتعد هذه المهنة من أقدم المهن التراثية السورية.
السيدة " توفيقة حسن" وهي في العقد الثامن من العمر، خاضت غمار هذه المهنة إلى جانب ابنتها التي تؤدي معظم مراحل العمل تحت إشراف الوالدة المسنة وخبرتها.
تقول السيدة "حسن": "تبدأ مراحل العمل بخلط التراب الأبيض والأحمر مع "الخاش" الذي يعطي تماسكاً لقوام الطين، مع إضافة "ملح الدب" وهو عبارة عن حجر ملحي يوجد في الطبيعة، تنقع جميع هذه المواد بالماء لمدة 24 ساعة، ثم يتم تشكيل التنور بها وبعد أيام يحرق ويصبح جاهزاً للاستعمال، مع ملاحظة أن المراحل حساسة جداً ويجب الانتباه من وجود أي تشققات في التنور".
تتحدث السيدة عن ذكريات الأمس عندما كان التنور في كل منزل، وكان سعره 6 ليرات سورية فقط، واليوم تتجاوز تكلفته 300000 ليرة سورية، وقد أصبح اسم "حسن" معروفاً بسبب خبرتها، ويتزايد الطلب على تنورها لهدف استعماله في المنزل أو لطلب الرزق، أو لوضعه زينة تراثية في فناء البيت، وليس لديها أي فكرة عن وجود نساء أخريات يصنعن التنور الطيني، إلا أنها تشجع النساء الصغيرات على تعلم صنعه حتى لا تندثر هذه المهنة التراثية من جهة، ولأنه يشكل مردوداً لا بأس به من جهة أخرى.
أما السيدة "اعتدال دلّا" من قرية عيون الوادي فتعمل في صناعة الملبن المصنوع من عصير العنب الخالص، حيث تقوم بغلي العصير ثم مدّه على شراشف نظيفة وتنشيفه في الهواء الطلق، فالمنطقة كما تقول، تشتهر بصناعة الملبن لتوافر عريشات العنب في معظم المنازل، ويشكل دخلاً جيداً لتزامنه مع مهرجانات المنطقة ووجود المغتربين.
دعم واحتضان
في نفس السياق، يتحدث "منذر رمضان" عضو اتحاد الحرفيين في طرطوس عن دور الأعمال والحرف اليدوية في تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية لما لها من أثر اقتصادي، مبيناً أن تعزيز هذه الحرف وتطويرها سيقدم فرص عمل تنعكس إيجاباً على المستوى المعيشي، كما تعزز التواصل الاجتماعي وتدعم الثقافة والهوية المحلية، وتشجع على التنافس وتطوير المهارات.
وبرأيه، فإن بيع هذا المنتج سيحقق بعض الموارد الاقتصادية متمثلاً بجذب السياح الراغبين في اقتناء المنتجات التقليدية اليدوية والمرغوبة التي تستغرق صناعتها وقتاً طويلاً، نظراً لكونها يدوية بالكامل وتتطلب الدقة والإتقان والصبر، على سبيل المثال صناعة سلة واحدة متوسطة الحجم قد تستغرق أربعة أيام من العمل.
ويؤكد "رمضان" أهمية تنظيم ورشات تدريبية مجانية للنساء، تعلمهن جميع الحرف التراثية التي لا تتطلب جهداً عضلياً كبيراً، ودعمهن لإبراز لمساتهن الأنثوية الإبداعية، إضافة إلى دعم المبادرات المجتمعية، وتوفير المواد اللازمة من أدوات ومعدات، وتنظيم معارض دورية ليس فقط ضمن محافظة طرطوس، بل العمل لأن تكون معارض مشتركة مع المحافظات الأخرى.