يعتبر الخط العربي من أجمل أنواع الخطوط على مر الأزمان، وتنوع الخطوط العربية وتعدد أشكالها منحها خصائص جمالية قلما نشاهدها في خطوط الأمم الأخرى، فبها تحتفظ الخطوط العربية برونقها الجميل وخصوصيتها الفريدة لتتحول إلى أجمل اللوحات جاذبية. وانطلاقاً من هذه الأهمية التي يختص بها الخط العربي يأتي لقاؤنا اليوم مع الخطاط "عبد الجليل عليان" أحد الخطاطين المبدعين، والذي حصد العديد من الجوائز المحلية والعالمية، ومن الذين جمعتهم علاقة روحية متناغمة مع كل حرف من حروف العربية لتتضح هذه الحميمة في لوحاته ومخطوطاته.

موقع eAleppo زار الأستاذ "عليان" في مكتبه في يوم الأربعاء (23/7/2008) لنتحدث معه عن رحلته مع الخط العربي، والذي حدثنا بداية عن ذكرياته الأولى مع فن التخطيط قائلاً: «قبل دخولي المدرسة وتعلّم القراءة كنت ألملم ما يتخلّى عنه أقاربي من كتب تالفة ودفاتر وكسر أقلام وألوان، وأشتغل بنقل الحروف وتصويرها، بدون أن أعرف معناها، وحينما لا أجد شيئاً من هذه الأدوات، كنت أعمد إلى أعواد الموقد المحروقة، أو حجر الحوّار الأبيض، لأكتب على جدار ملائم ـ أو هكذا كنت أراه ـ وأحياناً كثيرة كنت أخطّط على الرمل، وبعد دخولي المدرسة دأبتُ على حَفِّ قلم الرّصاص قليلاً على غلاف الدّفتر الخشن، لأتمكّن من تصوير الحروف المنسوخة في كتاب القراءة عند أداء الواجب المدرسيّ، وأذكر هنا وأنا في الصف الثاني الابتدائي أني تعرّضت للعقوبة بسبب عدم تصديق المعلّم بأنّني أنا الّذي أكتب واجبي». وكان يقول: «إنّ هذا خطّ طالب بمستوى الإعداديّة»، فتأكّدت ـ بقدر ما تألّمت ـ أنني أمتلك حسن الخط، ذاك أني كنت أشعر هذا في نفسي ـ قبل ذلك ـ لكن أقراني كانوا لا يعترفون لي بذلك، أو أنهم لم يستوعبوا، وعموماً قبل مشكلة تكذيب المعلّم، لم يكن أحد لينتبه لخطي، فجاءت هذه الحادثة تعزيزاً لما في نفسي، رحم الله المعلّم "عبد الحميد حطاب" وعفا عنه».

أبرز المدارس ـ بوجه عام ـ هي: (العربية والتركية والفارسية)، وأنا بالتأكيد أنتمي إلى المدرسة العربية الشامية

وعن أول تحفيز تلقاه ما جعله يتقرب أكثر من جمالية هذه الخطوط يقول: «في الصفّ الثامن تفوّقت بمادّة اللغة العربية، فأهداني أستاذي آنذاك "غياث شيكاغي" كتاب (قواعد الخط العربي) بقلم "هاشم محمد" (الخطاط العراقي رحمه الله). ومن يومها بدأت مدينتي المحروسة "منبج" تفرد لي لوائح الإعلان على المحلات التجارية والمباني الحكومية... وكان الذي يتعرّف عليّ لأول مرّة ـ وأنا في الصف العاشر- يندهش ويقول: «كنت أظنّك كهلاً!»

وحين سألنا الأستاذ "عليان" على يد من تعلم الخط؟ قال: «أول تعلمي للخط كان على كراسة الأستاذ "هاشم"، إذ لم تكن هنالك ـ في المكتبات ـ من مراجع غيره، سوى بعض الكراريس التعليمية، التي كنّا نسمع بها وهي محتكرة بحوزة بعض شيوخ الخط، ولا نعرف كيف نصل إليها. هذا من جهة الحرف، أما من جهة الأدوات فقد لاحظت عدم استجابة الأدوات التي أستخدمها بالشكل المطلوب، فقصدت الأستاذ الخطاط البارع "أحمد الباري" وأخذت بعض تعليماته في استخدام الأدوات، وكذلك أخذت بعضها الآخر من الأستاذ الخطاط القدير "محمد القاضي" (من تلاميذ "هاشم"). وكنت دائماً أبحث في الكتب التي بدأت أحصل عليها، وأدرس لأتعلّم ذاتيّا، وبعد سنة تقريبا من اتصالي بالأستاذ "أحمد الباري" حزت على جائزتين رمزيتين في خطين مختلفين في المسابقة الدولية الثالثة التي أجريت باسم "ابن البواب" في "أرسيكا بإستانبول».

وعن أبرز مدارس الخط العربي والمدرسة التي ينتمي إليها أضاف قائلاً: «أبرز المدارس ـ بوجه عام ـ هي: (العربية والتركية والفارسية)، وأنا بالتأكيد أنتمي إلى المدرسة العربية الشامية».

أما أدوات الخط فيعددها لنا الخطاط "عليان" وهي: «القلم: وهو من القصب، أو من المعدن، وهو في حالتيه يحتاج إلى البري، وفق الخط المطلوب، ومن ثم: الورق الذي نقوم بمعالجته حسب الطرق التقليدية ليصبح جاهزاً للاستخدام، وأخيراً الأحبار: وأهمها لدى الخطاط الحبر العربي ( المعدّ يدويا ). وطبعاً لكل مادة من هذه المواد لوازمها».

الخطاط "عبد الجليل عليان" من أقدم من يدرس فن الخط في مدينة "منبج" وعن تجربته هذه، وشعوره وهو يمارس تعليم الخط لغيره يقول: « درّست الخط لعشر سنوات في معهد "دار الأرقم" الشرعية بـ "منبج"، وقبل ذلك في "رابطة البحتري" لاتحاد شبيبة الثورة، والآن أدرّس في "معهد الثقافة الشعبية" بالمركز الثقافي العربي في "منبج"، إضافةً إلى تلاميذي الخصوصيين. أما عن شعوري حين أداء الواجب التعليمي، فهو من الارتياح والغبطة بما لا يوصف، ولا يشعره سوى من عاناه بحلوه ومرّه».

أما عن مستقبل الخط العربي مقارنة بماضيه وحاضره فيقول: «قديماً كان على درجة من الأهمية من الصعب تصوّرها الآن، ذلك لاتصاله اللصيق بالعلم ونسخ الكتب عند الوراقين والعلماء والملوك والأمراء، وقد يترقى الكاتب (الخطاط) من الديوان إلى الوزارة، كـ "الوزير الخطاط ابن مقلة"، الذي كان رائدا في تقعيد الخط، وكذلك إبان السلطنة العثمانية كان سلاطين الأتراك قد أولوا الخط عناية فائقة، حتى أن السلطان كان يمسك الدواة للخطاط تقديرا له واحتراما. أما في العصر الحديث فقد بدأ الخط ينحدر إلى التطبيقات الإعلانية، شيئا فشيئا، حتى ظن غالبية الخطاطين، أن الخط لن يعود إلى مجد الحبر المتصل بالعلم وإتقان الحرف فناً قائماً بذاته. إلى أن جاءت مبادرة اللجنة الدولية للحفاظ على التراث الحضاري الإسلامي في "استانبول" في أواخر القرن المنصرم وذلك بإقامة المسابقات لتشجيع الخطاطين في العالم الإسلامي، ثم نهجت "طهران" نهج "استانبول"، ثم "الشارقة" التي بدأت تنافس "استانبول"، وعندنا اليوم تضطلع "الرقة" مشكورة منذ أكثر من خمس سنوات بمسابقة تشجيعية متواضعة باسم "عبد الحميد الكاتب". وقد سمعت منذ قيامها أن "دمشق" ستقيم مسابقة باسم "مفن الشام" الراحل الخطاط الكبير "بدوي الديراني"، رحمه الله. هذا ومهما يكن من أمر، فإن الخط يبقى أرقى الفنون العربية والإسلامية، فهو على رأس الفنون التشكيلية لدينا، وهو يمتد على مساحات الرؤى من الفريضة إلى النافلة، علمـاً وفنـًّا وحرفةً، فهل من مدّكر؟ وسيبقى له أهله الذي يهيئهم الله لذلك، فهو عز وجل من وعد بحفظ كتابه، وهذا الخط تشرف بصلته بكتاب الله عز وجل، فأنّى له أن ينقطع؟ وهو في تطوّر مستمرّ على أيدي من ينتدبهم الله لخدمته، وقد خاب من قال أن حروفه أخذت أشكالها النهائية».

إذن فالخط العربي اليوم كما يراه "عليان": «أبرز فن يعبر عن هوية الأمة، وتكون قيمة هذا الكلام كبيرة وهائلة، إذا ما تذكّرنا كم يبذل العالم الاستعماري اليوم من جهود وأموال طائلة لمحو هويتنا وطمسها»

وفي نهاية هذا اللقاء ختم الخطاط "عبد الجليل عليان" حديثه مع موقع eAleppo قائلاً: «أتمنّى أن يتعاون الخطاطون بالطريقة (الغيرية) المناسبة لترسيم "جمعية الخط الفنية" في إطار نقابة الفنون التشكيلية، وأن يجدوا من يقف إلى جانبهم من المسؤولين في النقابة ومديرية الفنون والوزارة، ممّن يقدر القيمة الفنية والحضارية لفن الخط العربي. إذ أننا الآن مطالبون ـ أكثر ممّا مضى ـ بالعمل لتحقيق مستقبل أفضل للخط والخطاطين، سيّما وأن هذا الخط اسمه الخط العربي، بينما الذي يحمل لواءه عالياً هم الإخوة الأتراك!.. وردة للجهة التي أجرت معنا هذا الحوار».

أما رأي من تعاملوا ميدانياً مع الأستاذ "عليان" فنأخذه من الأستاذ "جابر الساجور" مدير (معهد الثقافة الشعبية) في "منبج" - والذي يقوم الأستاذ "عليان" حالياً بتدريس الخط العربي ضمنه- فيصف لنا الأستاذ "عليان" قائلاً: «نحن في (معهد الثقافة الشعبية) حاولنا الاستفادة من خبرات الأستاذ "عليان" في مجال الخط العربي في دورات يقيمها المعهد في إطار الجهود التي تبذلها وزارة الثقافة للمحافظة على اللغة العربية، وتنمية أجيال على صلة وثيقة بالخط العربي وفنونه وتعاليمه وأشكاله، ليس باعتباره فن عربي فحسب بل كونه فن عالمي، واختيارنا للتعامل مع الأستاذ "عليان" ينبع أساساً من جمعه بين الموهبة الفذة ودراسة الأكاديمية لعلم الطباعة إذ للوحاته صدى عالمي، وأيضاً كونه ابتكاري تتميز خطوطه بالرشاقة والاتزان، ولا بد من الإفادة منه بشكل جيد».

والجدير ذكره أن الخطاط "عبد الجليل عليان" من مواليد "منبـج" (1966)م، عضو رابطة الخطاطين السوريين، عمل خطاطــاً في المديرية العامة للآثار والمتاحف بـ "دمشق" (1986)م، شارك في ملتقى طريق الحرير لكتابة مصحف الشام، أكبر مصحف شريف في العالم في "دمشق" (2005)م، حائز على جوائز عديدة في الخط وأبرزها: جائزتان في (التعليق والتعليق الجلي) في مسابقة (ابن البواب الدولية) لفن الخط في إستانبول عام (1993)م، والجائزة الأولى بخط (الديواني الجلي) في مسابقة "عبد الحميد الكاتب" الأولى للخط العربي في "الرقة" عام (2002)م. إضافة إلى عشرات المشاركات المحلية والعربية والعالمية، وهو الآن متفرغ لتخطيط المصحف الشريف.