مناضل عسكري، وسياسي بارع، عالم بالتاريخ والجغرافية وله اهتمام باللغة العربية، كان من مؤسسي مجمع اللغة في "دمشق" وعدد من الدول العربية.

إنه "رشيد بن عبد الرزاق بقدونس"، الذي ولد في حي الصالحية في "دمشق" عام /1875/، وأنهى دراسته الأولية في "المدرسة الرشدية" في دمشق، ثـم التحق بالكليـة الحربية في اسطنبول وتخرج فيها ضابط مشاة عام /1895/، أُرسل بعدها في كتيبة إلى "كريت-Crete" ثم نقل إلى "سالونيك- Salonique" في اليونان التي أقام فيها ست سنوات وتعلم اللغة اليونانية.

عندما توفي والدي كنت وأخي رحمه الله في سن صغيرة إلا أنني مازلت حتى الآن وأنا في الثمانين من العمر أتذكر والدي بمليح خصاله ودماثة خلقه وحلمه وحسن استماعه، واجتهاده وتفانيه في ما يوكل إليه من عمل. أحب الوطن وناسه وبادله الجميع بمثل ما أعطى من الحب والاحترام، عند عودتي إلى الوطن سخرت كل إمكانياتي لجمع ما خلفه لنا والدي من تراث علمي وأدبي واستطعت أن أجمع بضعاً مما كتب بخط يده، وبناءً على طلب من مجمع اللغة العربية دأبت على كتابة سيرته الذاتية وبعد عناء وجهد كبيرين استطعت جمع ما أمكن ليصدر قريباً عن المجمع كتاب يحمل اسمه لكونه سابع عضو من الأعضاء المؤسسين. رحمه الله كان ابناً باراً لوطنه، كان عسكري النشأة محارباً أشوس، مفكر حكيم أديب ومربي؛ وأذكر أن أساتذتي في مدرسة التجهيز الأولى (جودت الهاشمي) يسألونني عن وجه القرابة بيني وبينه فأجيب بأنه والدي فيقولون أنت ابن أستاذنا الجليل ويترحموا عليه كلما ذكر، رحمه الله ترك ذكراً حميداً طيباً

حارب في صفوف الجيش التركي في حرب اليونان وأُسر في "إسبرطة-Sparta" عام 1913، وبقي أسيراً سنةً ونصف ثم أُطلق سراحه، فأُرسل إلى "جبهة القوقاز" مع بداية الحرب العالمية الأولى وظل فيها حتى انتهاء تلك الحرب.

السيد "زهير بقدونس" نجل السيد "رشيد بقدونس"

تلقى علومه في مادتي التاريخ والجغرافية في "مكتب عنبر"، ليتمم تحصيله العلمي فيما بعد في دار المعلمات بدمشق عام 1921. ليكون أستاذاً في المدرسة السلطانية في السلط 1922-1923 وفي المدرسة الإسلامية الكبرى في حيفا 1924-1928.

كان من نشطاء جمعية العهد التي تأسست عام 1913 وضمت عدداً كبيراً من القوميين العرب، ونادت باستقلال البلاد العربية. وأصدر في مدينة كولكي ـ سالونيك، جريدة الوطن باللغة التركية، ووقفها على نشر الوعي القومي والدعوة إلى استقلال البلاد العربية ووحدتها.

التحق عام 1918 أي بعد إعلان الثورة العربية ونجاحها بالجيش العربي في سورية، وعُيّن برتبة قائد في الشعبة الثالثة من ديوان الشورى الحربي، فشارك في تنظيم الجيش الفتي وتدريبه، وأسهم في ترجمة الكتب العسكرية من التركية إلى العربية، منها كتاب «تعليم المشاة»(1919)، وكتاب «الفروسية»(1920)، وكتاب «سياسة الخيل»، كذلك شارك في وضع جداول فنّ الرمي والرقيم اليومي وكتاب «الأسلحة»، وكتاب «التعبئة» وتنظيمات الجيش. وكان بصحبة الملك فيصل لما دخل دمشق بعد إعلان الاستقلال في "8/3/1920".

وولما دخل الفرنسييون "دمشق" تفرغ "بقدونس" لمقارعة المستعمرين الفرنسيين بفكره وقلمه، فشارك القوى الوطنية في تنظيم تجمعاتها وفي حرب العصابات، والمقاومة الوطنية التي بلغت أوجها عام 1922، وكان من بين من اعتقلتهم السلطات الفرنسية في ذلك العام وحكمت عليهم بالسجن والنفي، فحكم عليه بالسجن عشر سنوات ومثلها بالنفي، ولكنه تمكن من الهرب متخفياً عبر بادية الشام، حتى وصل إلى الأردن ثم فلسطين، وبقي فيها إلى أن صدر عفو عام عن الثوار في سنة /1928/ فعاد إلى دمشق.

مارس مهنة التدريس في مدارس منفاه فلسطين فدرس مواد التاريخ والجغرافية والحضارة العربية، وكان يؤكد في دروسه وحدة بلاد الشام، ليتابع بعد عودته إلى بلده الأم "سورية" نشاطه النضالي والسياسي، فكان من بين أعضاء المؤتمر السوري العربي الذي دعت إليه القوى الوطنية عام /1933/.

وتأكيداً على فرط محبته للوطن وجّه في 18 تشرين الأول 1935م مذكرة باسم المحاربين القدماء إلى دي مارتيل De Martel المفوض السامي الفرنسي في سورية ولبنان يطالبه فيها بالوحدة السياسية الشاملة وبالاستقلال والسيادة.

شارك في إعداد البيان الأول للجبهة الوطنية المتحدة عام /1936/ وشارك أيضاً في نشر ميثاق الاتحاد الوطني العام، كما شارك في المؤتمر القومي العربي في "بلودان" عام 1937.

دفعه حبه للغته العربية إلى الإسهام في جميع النشاطات التي تهدف إلى النهوض باللغة العربية والابتعاد عن التعبيرات الأجنبية، فترأس أعمال لجنة التهذيب اللغوي التي أنيط بها تدقيق التعبيرات والكلمات التنظيمية للقطاع المدني للدولة الفتية منذ عام 1919، وذلك بوضع مرادفات عربية للاصطلاحات والتعبيرات والتعليمات العسكرية والأوامر التي كانت مستعملة في الجيش التركي. وذلك من خلال دراسة مطولة حول اتباع رسم معين يضاف إلى الحروف العربية في مقابل الحروف الأجنبية التي ليس لها ما يقابلها في الأبجدية العربية.

ودعماً للفكر العلمي كان من أوائل المنادين بتأسيس مجامع علمية في كل من دمشق وبغداد والقاهرة وتونس والمغرب الأقصى حرصاً منه على سلامة اللغة العربية.

شارك في تأسيس المجمع العلمي العربي بدمشق (مجمع اللغة العربية اليوم) عام 1920 وكان من أوائل أعضائه ليتميز عن أقرانه بمشاركاته المتميزة، ونظراً لاضطلاعه بعلوم اللغة العربية عين رئيساً للجنة المصطلحات العلمية التي ضمت أعضاء من المجمع ومن الجامعة السورية وجامعة بغداد، وكانت له إسهامات في مجلة المجمع العلمي العربي. وقد أتقن اللغات التركية والفرنسية واليونانية والفارسية إتقاناً تاماً، وله مؤلفات باللغة اليونانية، ويبدو أن اندلاع الحرب العالمية الثانية ووفاته حالا دون صدورها.

من أهم مؤلفاته كتاب «التاريخ العام»، وكتاب «التاريخ القديم»، (الأعوام 1924-1928) وكتاب «تاريخ القرون الوسطى»، وكتاب «تاريخ القرون الأخيرة»، وكذلك كتاب «الجغرافية الطبيعية».

كذلك ترك مخطوطات غير منشورة، منها «تاريخ الكنيسة» (ترجمة عن اليونانية) و«آثار العرب» و«الطب عند العرب».

من أهم نشاطاته الخيرية والاجتماعية إسهامه مع نخبة من أهل الصالحية في تأسيس «جمعية الثقافة والتعليم الخيري»، لتعليم أبناء الفقراء والأيتام وتقديم الكتب واللوازم والألبسة مجاناً، وتعليم الأميين من أرباب الحرف ليلاً. وكان عضواً عاملاً في «جمعية النداء الخيري التعليمي»، وفي «جمعية التمدن الإسلامي». كما كان من مؤسسي «جمعية إسعاف المتقاعدين»، لإعانة المحتاجين من المتقاعدين العسكريين والمدنيين وأرباب المهن الحرة وأسرهم بالتطبيب والأدوية اللازمة.

"eSyria" التقى نجل "رشيد بقدونس" في زيارة خاصة في منزله في "شارع مصر"-حي الروضة في دمشق، حيث أفاض المهندس "زهير رشيد بقدونس" مواليد /1931/ الحديث عن والده بالقول: «عندما توفي والدي كنت وأخي رحمه الله في سن صغيرة إلا أنني مازلت حتى الآن وأنا في الثمانين من العمر أتذكر والدي بمليح خصاله ودماثة خلقه وحلمه وحسن استماعه، واجتهاده وتفانيه في ما يوكل إليه من عمل.

أحب الوطن وناسه وبادله الجميع بمثل ما أعطى من الحب والاحترام، عند عودتي إلى الوطن سخرت كل إمكانياتي لجمع ما خلفه لنا والدي من تراث علمي وأدبي واستطعت أن أجمع بضعاً مما كتب بخط يده، وبناءً على طلب من مجمع اللغة العربية دأبت على كتابة سيرته الذاتية وبعد عناء وجهد كبيرين استطعت جمع ما أمكن ليصدر قريباً عن المجمع كتاب يحمل اسمه لكونه سابع عضو من الأعضاء المؤسسين.

رحمه الله كان ابناً باراً لوطنه، كان عسكري النشأة محارباً أشوس، مفكر حكيم أديب ومربي؛ وأذكر أن أساتذتي في مدرسة التجهيز الأولى (جودت الهاشمي) يسألونني عن وجه القرابة بيني وبينه فأجيب بأنه والدي فيقولون أنت ابن أستاذنا الجليل ويترحموا عليه كلما ذكر، رحمه الله ترك ذكراً حميداً طيباً».

الجدير بالذكر أن السيد "رشيد بقدونس" مات في صالحية عام /1943/.