خمسة وتسعون عاماً وتقف في الصف، خمسة وتسعون عاماً وترفض مساعدة أحد، خمسة وتسعون عاماً ولا تزال المعلمة الفاضلة "فلورة عجمو" تنذر نفسها لخدمة مدرسة "الوحدة"، التي بدأت العمل فيها منذ أن كان عمرها ثمانية عشر عاماً.

وللتعرف أكثر على هذه الشخصية زار مراسل eDeiralzor بتاريخ 24 كانون الأول 2009 مدرسة "الوحدة"، والتقى المعلمة "فلورة"، وكان هذا الحوار، الذي بدأته بتواضع رافضة الجلوس قبل المراسل، ومستشهدة بقول للسيد "المسيح" عليه السلام «من اتضع ارتفع»، ثم بدأت بسرد مشوار حياتها الذي أمضته في هذه المدرسة قائلة:

عاش والدي عدة سنوات يعمل في "أمريكا"، وبعد أن عاد وأنجبني كان يريد تسميتي "زهور"، لكنه عدل عن هذا الاسم، وقام بترجمته للغة "الأمريكية" وأسماني "فلورة" والتي تعني "الزهور"

«أعمل في هذه المدرسة منذ العام 1933، ولم يكن قد مضى على افتتاحها عندما التحقت بها إلا أربعة أعوام، وكان عمري حينها ثمانية عشر عاما، مارست في هذه المدرسة كافة الأعمال، فكنت المستخدمة والمديرة والمحاسبة ومعلمة الرياضيات والعربي والفرنسي والديانة، وشاركت حتى في أعمال بناء المدرسة ودهانها، وقد سبب لي ذلك خسارة إحدى عيني، حيث كنت في كل عام تقريبا أقوم بدهان المدرسة، وفي إحدى المرات صعدت السلّم وكنت قد وضعت في أعلاه سطل الدهان، وكان من نوع الكلس، فوقع عن السلّم واندلق على وجهي الكلس، ففقدت عيني اليسرى، ولكن الحمد "لله" عوضني ربي ذلك، بقوة عيني الأخرى، والتي أتمتع من خلالها بنظر حاد، لدرجة أنني لم استعمل أي نوع من النظارات حتى يومنا هذا.

تقف في الصف

ولم يكن في المدرسة في بداية عملي فيها إلا معلمان، وتضم خمسة فصول، ولم توجد في حينها مناهج معتمدة، بل كنا نعلم الطلاب العلوم التي درسناها على يد الراهبات، وكان يشرف على المدرسة آنذاك شخص كفيف اسمه "عزيز الكوز"».

وعن كيفية تعلمها القراءة والكتابة قالت المعلمة "عجمو":

الوسام

«في مدرسة "نجمة الصبح" الواقعة في شارع "سينما الفؤاد" بحي "الرشدية"، والتي أصبحت حاليا تعرف بدير "الراهبات"، وكان عمري حين دخلت المدرسة ثماني سنوات، وبقيت فيها لمدة عشر سنوات، أتعلم فيها اللغة "الفرنسية" على يد الراهبة الفرنسية "سير لوي شانيل" واللغة "العربية" على يد راهبة عربية، كما كنا نتلقى في هذه المدرسة مختلف العلوم الأخرى، كالرياضيات والأدب، ونلت من هذه المدرسة الشهادة الابتدائية "السرتفيكا"».

كما سألنا المعلمة "فلورة" ألم يأتِ الوقت لكي ترتاحي في المنزل؟ فقالت:

بين الطلاب

«هذا هو الخطأ، فطالما أنني أملك القوة الجسدية التي وهبني إياها الرب، فلن أكف عن العمل، وأنا لا أجد الراحة والقوة إلا في هذه المدرسة، كما أشعر بسعادة وقوة أكبر كلما زارني أو أرسل لي التحيات أحد من طلابي الذين درستهم سابقا».

أما عن سبب تسميتها "فلورة" فقالت:

«عاش والدي عدة سنوات يعمل في "أمريكا"، وبعد أن عاد وأنجبني كان يريد تسميتي "زهور"، لكنه عدل عن هذا الاسم، وقام بترجمته للغة "الأمريكية" وأسماني "فلورة" والتي تعني "الزهور"».

وعن المواقف الطريفة التي حدثت معها خلال عملها في المدرسة حدثتنا قائلة:

«كلما حضر لي مفتش تربوي طريقة إعطاء الدرس في الصف، يخرج معجبا بها، فكنت أحضر كل الدروس مسبقا في المنزل مع وسائلها الإيضاحية التي أصممها بنفسي، ولا أستعمل أثناء إعطاء الدرس أي كتاب أو كراس، بل أحفظ المعلومات عن غيب وأقوم بإعطائها للطلاب».

أما عن سؤالنا لها هل صحيح أنها لم تأكل أو تشرب في المدرسة؟ فقالت:

«نعم هذا صحيح، فقد عودت نفسي منذ أن كان عمري أربع سنوات على الصوم الدائم، وبالتالي أصبحت أملك قدرة كبيرة على عدم تناول أو شرب أي شيء، كما أني نذرت حياتي لعمل الخير والتقرب من الله، وهذا الأمر ليس فقط في المدرسة، بل حتى في البيت، فأنا أقوم بأخذ حاجتي فقط من الطعام، وأوزع الباقي على الفقراء».

وللتعرف أكثر على هذه المعلمة التقى الموقع الأستاذة "سعاد قصار" أول قاضية في "ديرالزور" وإحدى طالبات المعلمة "فلورة" والتي حدثتنا عنها قائلة:

«شخصية غير عادية، ومن النادر أن نجد مثلها في هذه الأيام، تتمتع بشخصية قوية، درستنا أغلب المواد، حتى إنها كانت تجلبنا إلى المدرسة بعد الظهر وبشكل مجاني تشرح لنا الدروس مرة أخرى، وتساعدنا في حل الوظائف، ثم تعيدنا إلى المنازل، وكنا نشاهدها تقوم بتنظيف المدرسة بعد انصراف الطلاب بشكل تطوعي، حتى إنها قامت بطرد مستخدمي المدرسة، وقامت هي بأعمالهم، أما اليوم ورغم تقدمها في السن، فإنها ترفض الجلوس في المنزل، وتحضر إلى المدرسة بشكل يومي دون مساعدة أحد، بل إنها ترفض أن يقدم لها أحد المساعدة بكل أشكالها، تصعد وتنزل على السلالم يوميا عدة مرات، وتجري لكافة طلاب المدرسة عمليات سبر معلومات في القراءة والكتابة وجداول الضرب، ولم تقبل أي هدية في عيد معلم أو في أي مناسبة أخرى، ولا تزال تقوم بإعداد حلوى الأعياد "برشام" على يدها في المنزل وتوزعها على الطلاب في المدرسة، كما أنها الوحيدة في المنطقة الشرقية التي حصلت على وسام "مار أفرام السرياني"».

وعن حياتها المنزلية يقول السيد "مالك عجمو" ابن شقيقها الذي يسكن معها:

«تعتمد على نفسها في كل الأمور، ولا تقبل المساعدة من أحد، تأكل كفايتها وتوزع الباقي على الفقراء من الجوار، تعد الطعام والحلوى إلى هذا اليوم، وترفض أن أرافقها إلى المدرسة، حتى إنها ترفض أن أحمل عنها أي غرض».