نُسِجَت حولها الكثير من القصص والروايات التي لم يتم إثبات صحّتها حتى هذه اللحظة، فكتب عنها المؤرخون والرحالة وحُفِرَ اسمها في عقول الأحفاد نقلاً عن الأجداد، وكغيرها من الأماكن أُطلقَ عليها اسمٌ للدلالة على أسطورةٍ امتدت جذورها عبر قرنٍ من الزمن.

مغارة "التيس".. هي أحد الألغاز التي استعصتْ على أبناء القرى المجاورة لها في فك طلاسمها؛ حتى إن أحداً منهم لم ولن يتجرأ على الدخول للخوض في تفاصيل ظلامها الحالك خوفاً من المجهول، فيقول السيد "بدران العلي" /40/ سنة من أهالي "البوكمال": «سمعنا من آبائنا أنها مأوى للذئاب والضباع المفترسة وأنها مخبأٌ للأفاعي الكبيرة؛ لذلك لم نتجرأ على الدخول».

سمعنا من آبائنا أنها مأوى للذئاب والضباع المفترسة وأنها مخبأٌ للأفاعي الكبيرة؛ لذلك لم نتجرأ على الدخول

بعض أهالي المنطقة يتحاشون حتى الاقتراب منها لاعتقادهم بوجود الجن معتمدين على رواياتٍ قديمة وقعت على أسماعهم؛ لذلك قاموا في الفترات الماضية بسدّ فوهتها بأحجارٍ وأتربة خشيةً من ولوج أطفالهم خلسةً إلى أحشائها.

السيد "خليف العطية"

فيقول السيد "عليوي الجاسم" /45/ سنة: «لا يتجرأ أحد على الدخول إلى المغارة خوفاً من الجن والأشباح، لأن بعض الأشخاص في الماضي حاولوا التوغل في العمق، لكن فوانيسهم وقناديلهم كانت تنطفئ بمجرد إشعالها، فاضطروا إلى الخروج وزعموا بأنها مسكونة بالأرواح».

لكن البعض الآخر يرى غير ذلك؛ ويعتقد أنها كانت ملجأً للثوار وملاذاً وحيداً لهم للاختباء من أعين الجنود الفرنسيين، فيتحدث السيد "خليف عويد العطية" /50/ سنة؛ نقلاً عما سمعه من والده قائلاً: «كانت هذه المغارة مكاناً آمناً يؤمّه المجاهدون بعد أن يُنفّذوا هجمات مسلحة ضد الفرنسيين أثناء وجودهم في المنطقة، وبعد يأسْ الجيش الفرنسي من القضاء عليهم لصعوبة ملاحقتهم في المغارة؛ قاموا بقصفها بالمدفعية ما أدى إلى انسداد بعض ممراتها في الداخل ليصبح الدخول إليها أكثر صعوبة».

المغارة من الداخل

الباحث التاريخي "حميد سيد رمضان" كان له نصيبٌ في دخول هذه المغارة خلال فترة شبابه؛ وهو الآن لا يصدق كل الأقاويل التي تحاك حول وجود الجن فيها؛ فيقول: «دخلتُ إليها عام /1958/م بصحبة بعض زملاء الدراسة في المرحلة الإعدادية، وهذه المغارة عبارة عن مدخل على شكل غرفة صغيرة وبعد عدة أمتار فقط نحو الداخل يُطبق الظلام وتنعدم الرؤية وتنقص نسبة الأوكسجين لذلك من الصعب جداً إشعال النار في الداخل، وما يتناقله البعض عن وجود الأشباح بسبب إطفاء قناديلهم عار عن الصحة».

كل ما قيل عن هذه المغارة ربما يكون تكهنات ورؤى خاصة بأصحابها؛ لكن ما حكاية هذا "التيس" الذي ارتبط اسمه باسم المغارة؟؟

الباحث "حميد سيد رمضان"

الأستاذ "رمضان أحمد" مديرٌ لإعدادية في بلدة "الباغوز" وله اهتمامات واسعة بتاريخ المنطقة، تحدث عندما كنا متجهين معاً إلى مكان المغارة؛ فيقول: «ما سمعناه عن هذه المغارة هو أن أحد رعاة الماشية دخل إليها بحثاً عن تيسه، الذي ابتعد عن باقي القطيع ولجأ إلى المغارة، وتقول الحكاية بأن هذا الشاب لم يخرج منها إلا بعد عدة أيام وهو أشْيب الشعر من هول المخاوف التي تعرض إليها وهو في بطن تلك المغارة. لكن كل هذا الكلام يبقى مجرد تخمين بعيداً عن الواقع ولا يوجد دليل يُثبت صحة الرواية. في الفترة الماضية استطعت جمع بعض المعلومات من المُعمّرين ربما تكون أكثر منطقية من رواية "التيس" وبناءً على تلك المعلومات (ووفقاً لما قاله لي المُعمّرون) فإن هذه المغارة ليست سوى صدع طبيعي للجبل أدى إلى تكوينها؛ وقد استخدمها الجيش الفرنسي كمخزنٍ للأسلحة والذخيرة بعد أن قصفها بالمدفعية».

ثم تابع حديثه: «وبحكم وجودي في المنطقة فقد جاءت عدة وفود سياحية لزيارة المغارة خلال أعوامٍ مختلفة منذ عام /1975/م وآخر زيارة كانت لوفدٍ أوروبي في فترة التسعينيات؛ جاؤوا بالتحديد لرؤية هذه المغارة وهم يتّبعون خريطة حدودية كانت بحوزتهم، حتى إن الجو يومها كان ماطراً حيث أصرّ أحدهم على رؤيتها من قريب وعلى الرغم من تحذيري له من صعوبة الوصول خشية الانزلاق؛ إلا أنه صمّم على المتابعة ووصل أمام باب المغارة ثم عاد أدراجه وانضم إلى رفاقه من جديد لكن بعد أن انزلق ووقع في بحرٍ من الطين أثناء الصعود».

وكانت لهذه المغارة مساحةٌ أيضاً حتى في صفحات المستشرقين ممن زاروا بلادنا خلال حقباتٍ تاريخية فائتة، إذ كتب الرحالة الفرنسي "هنري شارل" في الصفحتين /35-36/ من كتابه (عشائر الغنامة) ما يلي: «قبل قيام أية حكومة في المنطقة؛ كانت جميع السفوح الداخلية مغطاةً بشجيرات كثيفة تعيش فيها حيوانات مفترسة، ولم يكن أحد يعلم بوجود المغارة، وقد سميت باسم مغارة "التيس" لأن أحد تيوس الماعز استغوته أشعة النور التي عكستها زجاجة مكسورة على عينيه فدخل المغارة، ثم لحقه أحد الفتيان من قبيلة "الجبور" وكان في الخامسة والعشرين من عمره؛ وقد فَقَدَ أهله كل أثر له حتى اعتقدوا أنه مات!! لكنه عاد بعد مدة إلى ذويه عن طريق قرية "عراق الربط" وهي قريةٌ حدودية. فقد خرج من الجهة الأخرى، فسأله الناس: (هل وجدت الزمن طويلاً عندما كنت في الظلمة؟ وكيف مشيت داخل المغارة؟؟) أجاب الشاب: (شاهدتُ نقطة نور مضيئة تنبعث من أعلى المغارة على شكل عين ثور ومنها كان نور الشمس يلمع من الأعلى وكانت الطريق تسير نحو الشمس المشرقة). خرج أبيض اللون بالكامل حتى لحيته بيضاء وكان أحياناً يشعر بثقل الهواء الذي يتنفسه وكأنه مملوءٌ بمرض الطاعون. لذلك أبيضّ لونه من الخوف. ويقول الشاب: (لقد شاهدتُ أفاعي كبيرة فكنت أحس بقشعريرة وبرعب شديد). أمضى الشاب عشرة أيام في تلك المغارة!! فهل هناك جن؟ الجميع يعتقد بوجودها بسبب تلك الحادثة، لكن بعد أن دخلها الملازم الفرنسي "تارييه" وخرج منها معافى وبقي شعره على حاله؛ بدأ الناس يُشكّكون بوجود الجن، مع أن أحداً من أبناء المنطقة لم يرض بمرافقة الضباط الفرنسيين المزودين بالفوانيس للمغامرة بدخول المغارة».

وحتى يكون هذا الموضوع متكاملاً؛ قمتُ بنفسي والأستاذ "رمضان" والسيد "خليف العطية" بدخول هذه المغارة مستعينين بإضاءة أجهزتنا الخلوية التي فقدت التغطية فور دخولنا؛ توغّلنا فيها حتى عمق /100/م مشياً على الرُكب حيناً وزحفاً حيناً آخر لانخفاض سقفها وقربها من مستوى قاعها؛ الجو كان بارداً جداً وأحذيتنا غاصت في التربة الرطبة، أما الظلام الدامس فكان يُخبئ في أحضانه الكثير من الويلات، هدوءٌ مُرعب كان يخيم في ساحةٍ تضم عدة ممرات وباتجاهاتٍ مختلفة تؤدي إلى اللا نهاية، أما سقفها وجدرانها المحفورة ببراعة فكانت تُنذرنا بمصيرٍ مجهول عندما كنت أرشقها بإضاءة كاميرا التصوير. مغامرةٌ قصيرة ربما لم نكتشف من خلالها أي شيء؛ لكن قد تُسجل سبقاً صحفياً لموقع eSyria لكونها أول وسيلة إعلامية تنشر مادة صحفية عن هذه المغارة مجهولة الهوية؛ لتكون هذه الخطوة البسيطة فاتحةً لخطواتٍ أكثر جدية للدخول إليها من جانب المختصين المزودين بأجهزة إضاءة مناسبة وملابس خاصة للكشف عن الحلقة المفقودة وإزالة الغبار عن أسرارها.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه المغارة تقع في أسفل الجبل المطل على بلدة "الباغوز" التي تبعد عن مدينة "البوكمال" نحو /2/كم باتجاه الشمال.

تنويه: الصورة الرئيسية هي للأستاذ "رمضان أحمد" الذي رافقنا إلى المغارة.