من الناس من يتصدر الزعامة وهو ليس أهلاً لها فلا تدوم زعامته إلا حيناً قد لا يتجاوز مدى حياته مهما اشتد شأنه ومنهم من تخلد زعامتهم وتظل أسماؤهم رمزاً للوطنية الصحيحة والإنسانية المثالية النادرة.

"صالح قنباز" بزغت شمس زعامته في محيط "حماة" فانهارت أمامها الزعامات المزيفة والتقاليد البالية، ولد الدكتور "صالح محمود قنباز" في "حماة" عام 1887م وبعد أن درس فيها رحل إلى "دمشق" عام 1901م وأكمل تحصيله العلمي في مدرسة "عنبر" ثم التحق بالمعهد الطبي "بدمشق" وتخرج طبيباً عام 1910م وتخصص بالأمراض الباطنية ثم عاد إلى "حماة" بعد أن ذاع صيته ولمع نجمه.

خاض ميدان الأعمال الاجتماعية وسخر مواهبه للمصلحة العامة وعاش لقومه لا لنفسه، فما عرف الحمويون مشروعاً نافعاً ولا حركة مباركة قاموا بها إلا كان هو على رأسها وقائدها، ولما أعلن النفير العام عين طبيباً برتبة رئيس في الجيش ثم نقل إلى "القدس" وأصيب هناك بالحمى وتلقى أمر نفيه من الطاغية "جمال باشا السفاح" إلى "الأناضول" عندما كان يقضي فترة النقاهة فسيق إليها مع عدد من الأحرار المنفيين، وبقي حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وعاد إلى "حماة" فعين طبيباً لحكومة "حماة" ثم فضل العمل الحر فاستقال منها، وفي نيسان عام 1923م انتخب لعضوية المجمع العلمي العربي "بدمشق"، وفي عام 1924م قررت الجمعية الآسيوية في "باريس" انتخابه عضواً عاملاً في هيئتها المركزية، وذلك لمهارته بفن التعليم وطول باعه بعلم النفس، كما كان إلى جانب كونه طبيباً، شاعراً مبدعاً خاصة في نظم الأناشيد الوطنية.

لما نشبت الثورة الحموية ضد الفرنسيين في مساء يوم الأحد 4 تشرين الأول عام 1925م، كان الدكتور "صالح" يضمد جراح المصابين ولم ترقد له عين، وفي صباح يوم الاثنين خاطر بنفسه تحت وابل الرصاص ليدخل إلى بيوت الجرحى ويسعفهم، وبعد عودته إلى بيته الكائن في "تل الدباغة" الملاصق "لتل صفرون" لم يلبث فيه قليلاً حتى طوق الفرنسيون التل المذكور وأخذوا يطلقون الرصاص على المارة حينها سمع صراخ أحدهم أمام باب بيته يستنجد طالباً فهب مجيباً وملبياً للنداء الإنساني والطبي، ولكنه لم يكد يطل من باب بيته حتى سقط على الأرض مصاباً برصاصتين في رأسه على يدي جندي فرنسي كان يترقب من يخرج من هذا البيت، وبقيت جثته مرمية على الأرض دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منها. ولما خفت الوطأة وأظلم الليل أدخله أهله إلى بيته، وفي الصباح لم يتمكن أحد من الرجال الوصول إلى بيته ليحمله إلى مقر دفنه فحملته النساء إلى الزاوية الشرابية القريبة من بيته فدفن بها بثيابه المضرجة بالدماء.

وفي تلك الأثناء داهم الجنود بيته وحطموا الأبواب والنوافذ والمكتبات بعد أن ترك أهله البيت فراراً بحياتهم لمدة خمسة أيام، ونهبوا مخطوطاته وكتبه النفيسة ومجموعاته التي قضى حياته في جمعها وتأليفها وتدوينها.

وهكذا أصبح مضرب الأمثال في عقيدته الوطنية وخدماته الإنسانية والاجتماعية التي خلدت آثاره ومآثره.