كلنا يعرف ساحة "فرحات" الشهيرة في "حلب" لكن هل سألت عن سبب تسميتها؟ ببساطة سميت بهذا الاسم نسبة للعلامة المطران "جرمانوس فرحات" صاحب الأثر الديني والفكري الكبير في "حلب"، فتاريخيا يحجز لـ"الفرحات" مساحة كبيرة في عالم الدين المسيحي والطائفة المارونية على وجه الخصوص ولم ينس التاريخ أن يدون اسمه بين أعظم الأدباء والباحثين في علم اللغة العربية ذلك لما له من مكانة وأثر كبيرين في هذين العالمين.

وعن الأثر الذي تركه المطران "الفرحات" زار موقع esyria نيافة الأب "جوزيف طوبجي" يوم 2/6/2009 في كنيسة "مار إلياس" للموارنة وحدثنا عن تاريخ المطران "الفرحات" وإنجازاته الكبيرة في مدينة "حلب" فقال في تعريف هذا العلامة وارتباطه بمدينة "حلب":

لقد كان للعلامة "جرمانوس فرحات" اهتمام بالأدب والشعر العربي بشكل عام فكان مطلعا على الأدب العربي منذ شبابه وقد كتب العديد من المدائح الشعرية التي تخص الديانة المسيحية شاكرا الرب ومادحا الدين وقد تحولت معظم هذه المقطوعات الشعرية إلى تراتيل بعد تلحينها ومازالت ترتل حتى يومنا هذا في الكنائس المارونية في دول عديدة، ومن هذه القصائد والأشعار انطلق "فرحات" في تعمقه باللغة العربية حتى وصل إلى حدود بعيدة وصلت إلى قواعد اللغة ذاتها

«إن المطران والعلامة "جرمانوس فرحات" هو ابن مدينة "حلب" حيث ولد فيها وترعرع فيها وأحبها على أنها أمه، وإن اسمه الأصلي هو "جبرائيل فرحات" وهذا الشخص حاليا يحجز حيزا كبيرا في تاريخ العرب عموما وتاريخ المسيحيين أبناء الطائفة المارونية خصوصا، وتنقسم أهميته إلى جزأين الأول يهتم بإنجازاته الدينية والتي تتعلق بالقواعد الشرعية والتعاليم المسيحية التي عمل على خدمتها والثاني يهتم بإنجازاته الفكرية إن كانت في مجالات اللغة العربية وقواعدها وآدابها وإن كانت في المجالات الفلسفية والإبداعات الفكرية».

جوزيف طوبجي

ولأن الإبداع لا يقف عند حد كان لـ"فرحات" إنجازات وامتيازات في مجالات كثيرة أهمها وأولها الدين المسيحي فقد حدثنا "الطوبجي" عن اهتمامات "فرحات" بالدين المسيحي واستقبال "لبنان" له على أنه بذرة عالم فقال:

«لقد كان المطران "جرمانوس فرحات" محبا للدين المسيحي ومواظبا على الحضور إلى الكنيسة ومجالسة أبناء العلم وأرباب الدين المتواجدين في "حلب"، وعندما غدا شابا توجه مع ثلاثة من زملائه من أبناء "حلب" ومحبي العلم والدين وهم "جبرائيل حوا"- و"السيد البتن"- و"جبرائيل قر علي" إلى "لبنان" لتلقي العلوم على أيدي كبار الأساقفة والباباوات وليعيشوا الحياة الرهبانية في أعماقها وفي حقيقتها الروحانية حيث تواصلوا مع الباطرياك هناك وكان ذلك في أواخر القرن السابع عشر، ويذكر التاريخ أن الباطرياك هناك ولشدة تعلقه بالشاب "جرمانوس فرحات" ولملاحظته لصفاء قلبه وانكبابه على العلم والمعرفة قد طلب من "فرحات" أن يعيد إحياء الأديرة المندثرة إذ أن جمهورية "لبنان" كانت تعاني من ابتعاد الرهبان عن بعض الأديرة بسبب الاحتلال العثماني آنذاك مما أدى إلى اندثار تلك الأديرة، وقد حمل "فرحات" ومعه ثلة من الباحثين عن المعرفة على عاتقهم تلك المهمة ونجحوا في إحياء بعض الأديرة هناك وأعادوا الراهبات إلى تلك الأديرة لتنتعش الحياة الرهبانية وتعود الروحانية إلى بريقها في ذلك الوقت رغم الاحتلال الذي فرض قيودا على الممارسات الدينية وتابع "فرحات مسيرته في "لبنان" يحثا عن المعرفة والعلم حتى وصل إلى حدود عليا جعلته يتبوأ مكانة مرموقة بين العلماء وهو مازال في سن الشباب».

ساحة فرحات

أما المرحلة الأهم التي عاشها "الفرحات" فكانت عودته إلى مدينة حلب" محملا بالمعارف والعلوم والخبرات فاستقبلته أمه الأولى "حلب" بصدر رحب حاضنة بين ذراعيها كاتب تاريخ جديد وعن تلك المرحلة التي غير فيها "الفرحات" الكثير ووضع نظما جديدة للرهبنة فيها يحدثنا "الطوبجي" عن قصة "الرهبنة الحلبية" فيقول: «لدى عودة "فرحات إلى "حلب" عمل على ذات المشروع الذي بدأه في "لبنان" حيث أعاد تأسيس الرهبنة في "حلب" والتي كانت موجودة منذ القرن الثالث عشر لكنها كانت تعاني من شتات وعدم ضبط لقواعدها كما كانت تعاني من الاحتلال العثماني، حيث هرب معظم الرهبان من "حلب"، أما عندما عاد "جرمانوس فرحات" إلى "حلب" عمل على وضع نظم وقواعد تضبط الرهبنة وتكسبها صلاحيات وحدود ومازال الرهبان يمشون على تلك القواعد حتى يومنا هذا ومن الجدير ذكره أنه قد برز مصطلح آنذاك يدعى الرهبنة "الحلبية" لما حجزته تلك القواعد الموضوعة من قبل "جرمانوس فرحات" من أهمية في عالم الرهبنة ومن دقة وتعمق في أصول الرهبنة، وهذا الشيء رفع من سوية مدينة "حلب" الدينية وأثبتت تواجدها في العالم المسيحي وبناء عليه تحول "جرمانوس فرحات" إلى "قسيس" في "حلب" لطائفة الموارنة ليسمونه فيما بعد "مطران" حلب" لطائفة الموارنة وكان أول "مطران" يسكن "حلب" ومن أهلها».

بتمسيته "مطران حلب" رسم "الفرحات صورة جديدة لهذي المدينة ورفع من سويتها الدينية إلى حد أنه أسس المطرانية "الحلبية" وعن هذا يجول الأب "جوزيف" في الحديث فيقول مفتخرا: «عندما سمي "جرمانوس فرحات" مطران "حلب" لطائفة الموارنة شكل صورة جديدة ومهمة لمدينة "حلب" حيث أن "حلب" كانت تفتقد لمطرانية تحتوي مطران فكان "جرمانوس فرحات" أول مطران مقيم في "حلب" أي في أبرشية خارج الباطرياكية ومرتبط مع "الباطرياك" مباشرة وبهذا شكل "الفرحات" قطبا دينيا منفردا في حد ذاته وجانبا مهما في حياة الطائفة الماروينة في "حلب" مما جعل الحركة الدينية المسيحية في "حلب" تنهض نهضة ملحوظة وتخطو خطوات مهمة باتجاه العالمية إذ أنها أصبحت تضم أحد أهم المطارنة فيها والذين ولدوا مسيرة جديدة للحياة المسيحية المارونية في "حلب"».

وليثبت "الفرحات" أنه عالم أو علامة بحق، لم يكتف بتجويد الصورة الدينية لمدينة "حلب" بل توسع في معارفه حتى طالت نيران علومه لغتنا العربية وطرائق تدريسها التي كان لها شكل تغير مع مد أيدي "الفرحات" إليها، فعن توجه هذا العلامة نحو اللغة العربية وآدابها وقواعدها أجابنا "الطوبجي" في القول: «لقد كان للعلامة "جرمانوس فرحات" اهتمام بالأدب والشعر العربي بشكل عام فكان مطلعا على الأدب العربي منذ شبابه وقد كتب العديد من المدائح الشعرية التي تخص الديانة المسيحية شاكرا الرب ومادحا الدين وقد تحولت معظم هذه المقطوعات الشعرية إلى تراتيل بعد تلحينها ومازالت ترتل حتى يومنا هذا في الكنائس المارونية في دول عديدة، ومن هذه القصائد والأشعار انطلق "فرحات" في تعمقه باللغة العربية حتى وصل إلى حدود بعيدة وصلت إلى قواعد اللغة ذاتها».

وعن الأشكال التي عمل على تغيرها "الفرحات" في تعلم اللغة العربية يتابع سماحته في الحديث فيقول: «قديما لم يكن للعلم والتعلم مكانة كبيرة بين الناس لأسباب عديدة منها الاحتلال العثماني ومنها تفشي الجهل والفقر بين الناس فكان العلم مقتصرا على الجلسات الدينية التي تقام في الجوامع أو الكنائس حيث كان الأطفال يذهبون إلى الكتاب في الجوامع ويتعلمون القراءة وقواعد اللغة العربية عبر قراءة "القرآن الكريم" التي يعلمهم إياها فضيلة الشيخ آنذاك إضافة إلى تعليمهم بعض أصول الحساب كالطرح والجمع والضرب والقسمة وتلك المعلومات التي يقوم على تدريسها الشيوخ والبابوات كانت تتفاوت من شيخ أو أب إلى آخر دون اللجوء إلى مرجع أو كتاب يدرس، فنظرا لتعمق "فرحات" باللغة العربية ولحبه لمدينته "حلب" شرع بمشروع جمع قواعد اللغة العربية في كتاب وفعلا كان ذلك في حدود العام (1780) حيث أصدر "الفرحات" كتابا جامعا لقواعد اللغة العربية مازال يعتبر مرتكزا حتى يومنا هذا وإضافة إلى ذلك كان لـ"فرحات" عددا من الكتب التي تخص الفلسفة ودواوين شعر ودراسات في النثر والأدب في اللغة العربية وعلم اللاهوت والقوانين الكنسية لها أهمية كبيرة في المكتبة العربية».

هكذا لم يكن لـ"فرحات" أن يمر على تاريخ مدينة اعتبرها "أمه" دون أن يترك بصمة خالدة على جدرانها وعلى أرصفتها وفي عقول أبنائها وعليه كان له نصب تذكاري يخلد ذكراه في "حلب" متمركزا أمام كنيسة "مار إلياس" في ساحة فرحات وعن هذا النصب وتاريخه يحدثنا "الطوبجي" فيقول: «هذا التمثال تم تدشينه في العام (1932) في ذكرى مرور مائتي عام على وفاة العلامة "جرمانوس فرحات" وقد جاء التمثال من "إيطاليا" دون معرفة اسم النحات الذي عمل عليه وقام على تدشينه مجموعة كبيرة من وجهاء الجمهورية العربية السورية كان على رأسهم فخامة رئيس الجمهورية آنذاك السيد "محمد علي بك العابد" وسفير دولة "إيطاليا" وعدد كبير من وجهاء الدين المسيحي في "سورية" وفي "لبنان" وكانت تلك التظاهرة في سبيل حفظ مكانة المطران "الفرحات" الكبيرة».

يذكر أن المطران العلامة "جرمانوس فرحات" من مواليد مدينة "حلب" استقبلته "حلب" في العام (1670) وودعته إلى مثواه الأخير في "حلب" في العام (1732) بعد أن أفنى اثنين وستين ربيعا قضاها في التفكير في آلية تطوير هذه المدينة ورسم صورة أجمل لها ولشعبها الذين رفعوا القبعات له عند وفاته.