نحن شباب من "حلب"، وعندما يأتي ذكر "اللاذقية" على سمعنا، لا نستطيع أن نختصر هذه الكلمة إلاّ ببحرها وما يعنيه من جمال وحرية ومرح، وطبيعتها الجبلية الرائعة، وناسها الطيبين...قصتنا اليوم يعرفها كلّ سوري ولكن هذه المرة بعدسة eِAleppo

ذات يوم كنت في إحدى مقاهي اللاذقية الشعبية عندما هاتفني صديقي "نور السيد" من "حلب" وزفّ لي الخبر السار: «سنصل "اللاذقية" صباح الغد، في السابعة صباحا، أنا و"صالح" و"صبحي"، وسنقضي يوم الجمعة برفقتك في "اللاذقية"، اشتقنا إلى أيام (الطيش)، وإلى رائحة الطبخ المحروق من تحت يديك، اشتقنا إلى حرارة الشمس اللاهبة تحرق أجسادنا التي ملّت الروتين».

أكثر شيء يجعلني أعشق هكذا رحل، هو التغير الذي نعيشه، منزل آخر، هواء آخر، وجوه أخرى

و"نور" هذا طالب في السنة الثالثة في كلية الهندسة الميكانيكية في جامعة "حلب"، وقتها رجعت ذاكرتي إلى أيام لا تنسى، وتذكرت كلمات "صالح العلاوي" وهو طالب في السنة الثانية في كلية الاقتصاد في جامعة "حلب" أيضا: «هناك أيام كانت منازلنا –بمساحتها الكبيرة- تضيق وتصبح علبة كبريت أمام شحنات الشباب التي لا تستوعبها، إلا طبيعة الساحل الرائعة».

"صالح" في مطبخ الشاليه

انتظرت صباح الغد، وبعد ثوان قليلة قضيتها على فراش النوم، أيقظني هاتف صديقي "صالح" حيث قال لي : «وصلنا الآن ونحن بانتظارك في كراجات البولمان». وبالفعل توجهت إلى هناك، وكانت لحظة اللقاء، "نور" و"صالح" و"صبحي السيد عمر" وهذا الأخير صديق أيضا يدرس في التعليم المفتوح في جامعة "البعث"، قسم الترجمة.

قال "نور" وقتها: «بعد 186كيلو متر تفصل "حلب" عن "اللاذقية" عروس الجمال في "سورية"، هذه المدينة التي تعيش في قلوب كلّ السوريين، هي فسحة الراحة والانشراح، إنها "اللاذقية" والتي مازال قلبنا يبكي عندما يمر عام ولا نشم هواءها، دعونا نتوجه إلى مقصدنا الأول " الشاطئ الأزرق"».

"نور" في البولمان

وبالفعل وصلنا إلى "الشاطئ الأزرق" وهو منتجع سياحي يقع في الجهة الشمالية من المدينة، يزوره سنويا مئات الآلاف من أبناء "سورية"، وكالعادة كان لا بدّ من استئجار (الشالّيه)، وما هي إلا لحظات حتى وقع اختيارنا عل منزل جميل يقع على بعد أمتار من شاطئ البحر، قال "صبحي": «أكثر شيء يجعلني أعشق هكذا رحل، هو التغير الذي نعيشه، منزل آخر، هواء آخر، وجوه أخرى»... وبعد هذا الشرود عاد إلى عقله: «يجب علينا شراء بعض الأغراض لإعداد طعام الغداء، هنا كلّ شيء موجود (من الأبرة إلى الخضرة)».

وبالفعل تتميز شواطئ "اللاذقية" حتى البعيدة منها عن المدن مثل "البدروسية" و"رأس البسيط" و"أم الطيور" بأنّ الأسواق الشعبية متوفرة فيها، وتستطيع شراء ما تحتاج حتى في ساعات الليل المتأخرة.

"الشاطئ الأزرق"

وبعد الغداء اقترح "نور" مايلي: «أعتقد أن خروجنا سالمين من حقل التجارب الذي وضعنا فيه "صبحي"، عندما وافقنا أن نسلّمه دفة القيادة في المطبخ، يستحق منّا مشوارا على رمل البحر، افتقدت رائحة البحر، ولونه السحري، وأصوات الناس الذي يتراشقون ماءه».

وبالفعل ما هي إلاّ لحظات حتى وصلنا إلى البحر

عندها قال "صالح": «أذكر تماما دموعي، في صيف 1995، عندما قرر والدي تأجيل رحلتنا السنوية المعتادة إلى البحر، علاقتي بك غريبة أيها الكهل، أترانا نختصر سحرك في عيوننا، أم أنك تضم وتنشر مع كل موجة أصوات عشرين مليون نسمة».

عندها لم نشعر بالوقت، وإذ بالغروب يخيم على حبات الرمل ويحولها من لون من الذهب إلى لون باهت حزين ينسجم مع ألوان الشمس المنعزلة ليكملّ لوحة تسمى بكل اختصار (غروب بحر "اللاذقية")، ولا أجمل من الغروب في "الكورنيش الجنوبي"، وهو نظير "الشاطئ الأزرق" من المدينة، يقول عنه "نور" : «إذا أردت يوما أن تجعل من يومك ذا قيمة فيجب عليك أن تقضي غروبه على صخرة من صخور "الكورنيش الجنوبي" حيث الشمس بين يديك، والماء من تحتك والسماء تغطيك، وأصوات المارة تعيق في أذنك، "الكورنيش الجنوبي" وصخرته الضخمة اختصار لجمال جنوب اللاذقية».

عندما عدنا إلى "الشاطئ الأزرق" كان المساء قد رمى حلته عليه، وبدأت أصوات أقدام الناس التي غزت شوارع المنطقة تزدحم...انتهت الرحلة، وقررنا العودة، وكان الإصرار أكثر على أن أعود معهم لأنهم اشتاقوا لـ"حلب" وسهراتها معي، وبالفعل ما هي إلاّ دقائق قليلة حتى اقتنعت وعدنا سويا.

يقول "صبحي" عن الطريق بين "حلب" و"اللاذقية": «صحيح أننا نذهب في رحلة إلى "اللاذقية" لكن الحقيقة هي أننا نذهب في رحلتين لأنّ الطريق بين هاتين المحافظتين هو نزهة بحد ذاتها».

ويتابع "صبحي" عن رأيه بالطريق بين "حلب" و"اللاذقية": «تبهرك المناظر الجميلة من أشجار وغابات ومشاهد خلابة، على حد علمك تكون على جبل مرتفع جدا وما هي إلا ثوانٍ حتى تصبح فوق جسر معمر في بطن وادٍ عميق، وطبعا لا بد من الشرود في منازل منسية بين الغابات، تترك فينا شعورا غريبا لا يمكن تفسيره».

يذكر أنّنا وصلنا إلى "حلب" سالمين بعد مرورنا بطريق "حلب" "اللاذقية" والذي يقطنه (قطاع طرق طيبون) يجبرونك برائحة (الشعيبيات) الجذابة التي يصنعونها على النزول في إحدى الاستراحات في "أريحا" وشرائها للأهل الذين ينتظرونك في "حلب".