لكل أسرة ريفية في محافظة "حلب" يوم أحمر يكون عادةً في شهر آب من كل عام، في هذا اليوم يتلون النهار كله باللون الأحمر بدءاً من صباحه وحتى مسائه وله طقوسه الاجتماعية الجميلة والمتوارثة جيلاً بعد جيل، وعلى الرغم من اختلاف تاريخ هذا اليوم بين أسرة وأخرى إلا أنّ مناسبته تبقى واحدة ومشتركة بين الجميع وهي صنع وإعداد مادة "دبس البندورة".

تقول السيدة "مريم محمد ديب" لموقع eAleppo عن هذا اليوم الأحمر وأهميته في حياة الريفيين بشكل عام: «في يوم إعداد مادة "دبس البندورة" وحفظها كمؤونة سنوية في بيوتنا يتلوّن نهارنا باللون الأحمر وذلك منذ أن كنت طفلة، وفيه نبدأ نهارنا بجني البندورة ومن ثم استخراج عصيرها وأخيراً غلي ذلك العصير وتجفيفه بحرارة الشمس لنحصل في الأخير على "دبس البندورة" وبعد تصفيف القطرميزات في مطابخنا تتزين رفوفها باللون الأحمر، أما أثناء العمل الذي تشارك فيه الفتيات والصبايا فالأحاديث الخفيفة والهمسات التي تدور فيما بينهن هي أيضاً أحاديث حمراء لأنها غالباً حول الحب البريء والعذري في الريف».

والجدير بالذكر أنّ هناك طريقة أخرى لإعداد "دبس البندورة" هي طريقة تعتمد على حرارة الشمس في إعداده وهي نفس الطريقة السابقة باستثناء مرحلة الغلي حيث يتم وضع عصير البندورة تحت الشمس حتى يجف تماماً وتتبخر المياه منه ومن ثم حفظه بنفس الطريقة السابقة

وحول تفاصيل هذا اليوم تقول السيدة "مريم": «لهذا اليوم نكهته المميّزة لدى الأسر الريفية التي تنتظره بفارغ الصبر لمدة عام كامل ويتضمن مهرجاناً مصغّراً يُقام في كل بيت وبشكل دوري في كل بيوت القرية، في هذا اليوم يستيقظ جميع أفراد الأسرة كباراً وصغاراً للمشاركة في العمل منذ الصباح الباكر إما لجني المحصول أو لاستقبال التاجر الذي سيجلب البندورة من سوق الهال.

تجفيف الدبس بالشمس

ومن أهم الطقوس الاجتماعية لهذا اليوم هو المساعدة التي يقدمها الجيران لبعضهم بعضاً وخاصّةً النساء منهن اللواتي يأتين للمساهمة في تقطيع حبات البندورة وعصرها وغليها في جو اجتماعي ريفي جميل حيث يسود فترة العمل جو مرح من خلال سرد الحكايات الاجتماعية الطريفة والأحاديث المسلية، والطقس الآخر هو مشاركة الرجال من خلال جلب الحطب وإشعال النار تحت الحلة الكبيرة التي تحتوي على عصير البندورة مع الحرص على إبقائها متوقدة ومنعها من الانطفاء لمدة قد تستمر لثلاث ساعات أو أكثر وذلك حتى ينضج الدبس تماماً يؤدون خلالها بعض الأغاني الفلكلورية والتراثية الجميلة.

والطقس الاجتماعي الآخر هو حضور الأطفال وهم يحملون صحوناً صغيرة بأيديهم يطلبون من النسوة اللواتي ينقلن الدبس الساخن إلى سطح الدار لتجفيف قليل منه ليقوموا بتذوقه، وبعد تناولهم لما في الصحن لا يتوانون عن طلب المزيد».

الدبس تجفف تحت أشعة الشمس

أما السيدة "مولودة خالد" فتقول عن طرق تحضير وإعداد "دبس البندورة" في هذا اليوم: «بعد وصول حبات البندورة إلى البيت نقوم بغسلها جيداً ومن ثم يتشارك عدد من النسوة في القرية بفرم الحبات إلى قطع صغيرة وبعد الانتهاء من ذلك يتم تمليحها وتركها لفترة ومن ثم سكبها في الحلة الكبيرة من خلال مصفاة التي تحجز القشور بينما ينسكب العصير في الحلّة لتتم بعدها مرحلة الغلي التي تدوم لأكثر من ثلاث ساعات متواصلة.

وبعد الانتهاء من مرحلة الغلي تتناوب النسوة والصبايا في نقل الدبس من الحلّة إلى سطح الدار وذلك بغية تجفيفه بحرارة الشمس حيث يبقى معرّضاً للشمس عدة أيام ليصبح بعدها جاهزاً للحفظ الذي يتم بوضعه في قطرميزات زجاجية خاصّة مع سد أغطيتها بإحكام بعد وضع قليل من زيت الزيتون على وجهها وذلك منعاً للتعفن والفساد».

البندورة.. ويوم ريفي أحمر

وتختم: «والجدير بالذكر أنّ هناك طريقة أخرى لإعداد "دبس البندورة" هي طريقة تعتمد على حرارة الشمس في إعداده وهي نفس الطريقة السابقة باستثناء مرحلة الغلي حيث يتم وضع عصير البندورة تحت الشمس حتى يجف تماماً وتتبخر المياه منه ومن ثم حفظه بنفس الطريقة السابقة».

وتقول "حميدة محمد ديب" حول أهمية الدبس في حياة الناس في الريف: «إنّ فكرة إعداد "دبس البندورة" وحفظه في البيوت كمؤونة شتوية نشأت في الريف منذ أقدم الأزمنة والسبب كان كما سمعناه من أهلنا هو أنه قديماً لم يكن بالإمكان الحصول على الخضراوات الصيفية في فصل الشتاء مثل البندورة والخيار والفليفلة وغيرها بسبب عدم توافر الكهرباء وبالتالي عدم وجود البيوت البلاستيكية لزراعتها والبرادات لحفظها والطريقة الوحيدة كانت بصنع "دبس البندورة" وحفظه ومن ثم استعماله في جميع الأكلات والطبخات التي كانت تدخل في إعدادها ثمار البندورة.

وعلى الرغم من توافر جميع أنواع الخضراوات اليوم وفي جميع فصول السنة إلا أنّ صناعة دبس البندورة ما زالت تحظى باهتمام الكثير من الريفيين وخاصّة كبار السن منهم وذلك للأسباب التالية: النكهة الشهية والطعم المميّز للدبس المُصنّع منزلياً من جهة وأنّ إعداده أصبح جزءاً من التقاليد الشعبية الريفية من جهة ثانية وأخيراً عدم رغبة الكثير من الناس في الريف بشراء "دبس البندورة" من الأسواق لأسباب نفسية تتعلق بعدم معرفة مصدره وطريقة إعداده».

وأخيراً تحدثت السيدة "حميدة" عن الفروقات في طريقة إعداد "دبس البندورة" بين القديم والزمن الحالي قائلةً: «قديماً كان الريفيون يصنعون الدبس من ثمار البندورة الطبيعية التي كانوا يزرعونها بأنفسهم في كرومهم وحواكير منازلهم أما اليوم فالأغلبية منهم يعمدون إلى شراء الثمار من الأسواق، وثمار الأسواق كما هو معروف تنمو باستخدام المبيدات والأدوية وهذا غير صحي.

وبالنسبة لعصر البندورة فقديماً كنا نقوم بذلك يدوياً وفي البيوت أما اليوم فالناس يرسلون البندورة إلى المدينة ليتم عصرها بشكل آلي بواسطة ماكينات عصر خاصّة، قديماً كنا نصنع الدبس لحفظه في البيوت وما زاد كنا نبيعه في أسواق المدن القريبة ولكن حالياً يتم التحوّل تدريجياً إلى الشراء من الأسواق وبالتالي تخلي أبناء الجيل الحالي عن فكرة إعداده منزلياً».