تقع تكية الشيخ "أبو بكر الوفائي" إلى الشرق من منطقة "الرمضانية" في "جبل الغزالات" غربي "حي العرقوب" وقد كانت مسجداً ثم تم تحويلها إلى تكية للصوفية.

حول هذه التكية تحدثت الدكتورة "بغداد عبد المنعم"* لموقع eAleppo قائلةً: «يحاول المؤرخون دوماً أن يكونوا موضوعيين وأن يسجلوا الثوابت لكنهم يقعون في دائرة الوصف الضيقة وهم في كل الأحوال ينقلون صورةً نستطيع دوماً إعادة قراءتها وتجاوز ثباتها، يقول "الطباخ": «إذا أرسلت طرفك للشمال الشرقي من مدينة "حلب" تجد جبلاً صغيراً فيه عدة بنايات وفي وسطه أربع قباب مرتفعة وهناك أشجار من السرو، تحت هذه القباب ضريح الشيخ "أبي بكر بن أبي الوفا" رضي اللهُ عنه وقد اشتهر هذا المكان باسمه».

يمكن الوصول إلى جامع الشيخ "أبو بكر" من خلال شارع "جامع ميسلون" -تحت الجسر -آخر مفرق من تحت الجسر يساراً ثم باتجاه طلعة "دار الأفراح" حيث يكون الجامع في نهاية الطلعة يساراً

في هذا النص التاريخي المتأخر نستطيع تجاوزَ الثبات إن نحن قرأنا العلاقةَ بين الأشجار والقباب فكلاهما سقفان انفتاحيان وكلاهما للإنسان، فليس للقبة ذلك الاستواء المحدود الذي يوقف البصر عند نقطة محددة بل إنّ تلك السماء الصغيرة /القبة/ تعطي إمكانات غنية للرؤية فثمة رابط عميق ما بين الشجرة والقبة وغالباً ما تحمل الأماكن القديمة عناصر البيئة الأرضية في حيزها كنوع من التوحد والطبيعية فتلك جماليات عفوية مستمرة.

المحراب، من أجمل محاريب حلب

توفي الشيخ "أبو بكر" في العام 991 هجرية 1583 ميلادية أما من قام ببناء حُجرة الضريح والاعتناء ببناء المسجد والإنفاق على التكية فهو "أحمد القاري" المتوفي في العام 1041 هجرية 1632 ميلادية وقبره قائم بجوار المسجد، التكية كانت مسجداً في القرن السابع الهجري ولأنّ المدن تتمدد عادة وتكبر ولأن قدر المدينة العربية أن تجتاحها الحداثة اجتياحاً بما يشبه الاحتلال والابتذال فقد أضحت هذه الهضبة الجميلة بحجارتها وبناءاتها في وسط المدينة الحديثة بينما كانت قديماً خارجها وبعيدة عن أسوارها وكان على قمتها هذا المسجد ثم بني على أنقاض المسجد تكية كبيرة عُرفت بذلك منذ القرن العاشر الهجري والسادس عشر الميلادي كمقر لدروايش الطريقة الوفائية إحدى الطرق التي انتشرت في "حلب"».

وأضافت: «حين دخل العثمانيون "حلب" في العام 1516 سُميت هذه الهضبة "أورته تبة" أي الهضبة الوسطى لتوسطها بين هضبتين أخريين قريبتين منها وقد أخذ الحي الذي نما لاحقاً حول المسجد اسمه من اسم الشيخ الجليل ولكن من سوء الحظ أن القرن العشرين كان قد بدأ وكانت اضطرابات العمارة قد بدأت تلاحق المدينةَ العربية فاجتاحت هذا الحي بنايات فوضوية وشوارع ارتجالية اكتظت وتكاثفت وحولَت المكان عن هدوئه الصلب الحزين إلى ضجيج أعمى بدون طائل وكان يمكن لهذا المكان ذي المركزية المسجدية المهمة ذي القباب والأدراج أن يأخذ طابعه من هذه الهوية العتيقة».

المئذنة

وحول التكية كمقر للولاة العثمانيين قالت: «يبدو أن المكان ببعده وارتفاعه وأشجاره وفّر تلك العزلة النقية والبسيطة لمسجد بسيط كسته الأزمان أهميات متتابعة من مسجد إلى مسجد وفيه ضريح الشيخ "أبي بكر الوفائي" ثم إلى تكية وإلى مكان يؤمه الساسة العثمانيون ويبسطون إليه الدعاء والمطالب، لقد كان ولاة "حلب" من الدولة العثمانية يقيمون في هذه التكية منذ نشأتها الأولى إلى أواسط القرن الثالث عشر الهجري وكان كثير منهم يعتنون بشأن التكية ويحرص كل واحد منهم على أن يترك له فيها أثراً ومن ذلك أنّ ثمة قاعة كبيرة مزدانة بالقاشاني كانت قائمة فيها لكن لا وجود لها الآن ومن بقايا العناصر المعمارية الجميلة الباقية حتى الآن المحراب في حُجرة الضريح، كما يقول الشيخ المؤرخ "كامل الغزي" والعلامة "خير الدين الأسدي".

كان المسجدُ قائماً في القرن السابع الهجري ومما يدعم ذلك ذِكره عند المؤرخ "ابن شداد" الذي صنع مسحاً تاريخياً مدنياً ومعمارياً لمدن بلاد الشام الرئيسيات وكان هذا المسجد من بين تسجيلاته التي ذكرها عن مدينة "حلب" وحتى الوقت الذي دُفن فيه الشيخ "أبو بكر" في العام 1583م كان هذا المكان ما يزال مسجداً».

صورة قديمة للتكية

وتحدثت الدكتورة "بغداد" حول التكية من الناحية المعمارية قائلة: «في هويته المعمارية الحالية ثمة فسحة حانية تحيط بالمسجد تمتد أمام القبلية، بينما تدانيها من كل الأطراف بيوت ملاصقة ما زال معظمها محافظاً على تقاليد البيت العربي القديم ولا يوصل إليها إلا بعد ارتقاء أدراج عديدة في الواجهة الداخلية للمسجد وفي القسم الأيمن منها نشهد تناوب اللونين الأبيض والأسود تزينها من ثم المزررات والزخارف الحجرية، وفي مدخل القبلية نجد القوس الثلاثي الفصوص، أما التسقيف فهناك القباب وهناك جذوع الهرم وثمة قبة تغطي حجرة الضريح حيث يتم الانتقال فيها بسبعة صفوف من المقرنصات، أما في القبة الكبرى التي تغطي القبلية فكان الانتقال بحنيات ركنية حيث تستند القبة إلى ثمانية أقواس، وحالياً فإنّ بيت الصلاة -عدا قبته الكبيرة - هو بسيط وصغير المساحة نسبياً وفيه منبر خشبي عادي.

المئذنة لا ترتفع كما هو شائع إلى جانب القباب أو في وسطهن، بل كأنما أُضيفت لاحقاً فهي تقوم فوق مدخل الباب الخارجي لصحن المسجد وربما أعطاها ذلك ميزة وتفرداً، في هذه المئذنة البسيطة الجميلة نجد 12 ضلعاً وشرفة قائمة على مقرنصات بديعة وفي منتهى المئذنة مظلةٌ خشيبة من 12 ضلعاً أيضاً، وأما المحراب فهو أجمل ما في هذا المسجد على الإطلاق ولعله أجمل محراب في مدينة "حلب"، فقد اخترقته الزخارف الهندسية بتداخلاتها وجدلياتها ولا نهاياتها وحولته إلى كون قائم بذاته يرتفع تحت قبة الشيخ الجليل وليس في وسط القبلية الأساسية التي تتألف من مجاز واحد».

وختمت: «يمكن الوصول إلى جامع الشيخ "أبو بكر" من خلال شارع "جامع ميسلون" -تحت الجسر -آخر مفرق من تحت الجسر يساراً ثم باتجاه طلعة "دار الأفراح" حيث يكون الجامع في نهاية الطلعة يساراً».

ويقول المهندس "عبد الله حجار"** حول التكية: «تتألف التكية من إيوان كبير في صدره قبلية صغيرة وعلى يمينه حجرة واسعة بها قبة مرتفعة في وسطها ضريح الشيخ "أبو بكر ابن أبي الوفا" الذي توفي في العام 1583م وفي صدر الغرفة محراب من الحجر الأبيض والأصفر والأسود والمليء بالزخرفة والنقوش الحجرية الجميلة وفي صدر الغرفة الأخرى نافذتان تطلان على التربة فيهما نجارة دقيقة رائعة وفي الجدران كوى نوافذ من الجص وإلى يسار الإيوان حجرة ضريح الشيخ "القاري" وفي شرق الإيوان رواق صغير له ثلاث قباب مبنية على عمودين من الرخام الأصفر وفي صدر الرواق قاعة بقبة عالية أرضها مرخمة والى شرقي القاعة قسطل ماء مبني في العام 1596م.

يخبرنا الشيخ "كامل الغزي" أنّ التكية كان تأسيسها في القرن العاشر على يد "أحمد بن عمر القاري" المتوفى في العام 1632م وتحوي ضريح الشيخ "أبو بكر ابن أبي الوفا" المتوفى في العام 1583م وتوجد فيها مئذنة مثمنة قصيرة واقعة فوق مدخل التكية يُصعد إليها من باب جانبي في الجدار، ومنظر الموقع جميل بأشجاره الباسقة وقبابه الأربعة».

  • الدكتورة "بغداد عبد المنعم": مهندسة مدنية وباحثة في التراث العربي وحاصلة على الدكتوراه من معهد التراث العلمي بجامعة "حلب"، لها كتب عديدة في هذا المجال منها كتابان حول "حلب" هما: "حلب في أحاديث الماء والجمال" و"حلب مدينة أم أغنية من مقام القلعة"؟.
  • ** المهندس "عبد الله حجار": مهندس مدني وحاصل على دبلوم آثار من معهد التراث في جامعة "حلب" في العام 1988 وهو عضو في جمعية العاديات ومستشارها للفترات الكلاسيكية له العديد من المؤلفات حول تاريخ "حلب" أهمها: "معالم حلب الأثرية" و"إضاءات حلبية" وغيرها.