يُعدّ "الخزف" تراثاً تاريخياً روحيّاً عريقاً، تناقلته الحضارات المتعاقبة مثل "فرنسا واليونان والصين" كفن جمالي يزين الكنائس والقصور من حيث تكوين وتشكيل التماثيل والجداريات الكبيرة، وإرثاً تطبيقياً يصنعون به أدوات للاستخدام المنزلي يزخرفونها باللون أو الرسومات المصورة للطبيعة والملاحم، مثل "الجُرر والأواني والكؤوس".

وللخزف امتداد عميق في تاريخ "الحضارة السورية وبداية نهضتها"، وفي واقعه المحلي الآن، اعترضت مصيره صعوبات بالغة حدّت من تفوقه ومعرفته كما السابق.

الخزف قيمة نحتية وتصويرية، لأنه يجسد علاقة الكتلة والفراغ، وعلاقة الألوان مع بعضها، وهذا الدفق يستمده "نبهان" في محاكاته وتفاعله مع مادة الصلصال ذات المحتوى الطيني النبيل

للتعرف إلى فن الخزف والصعوبات التي اعترضته، "eSyria" زارت الخزاف السوري "علاء الدين نبهان" المولود في" حماه" عام 1979، في مرسمه الكائن في "حي العمارة بدمشق القديمة" في 24/7/2008، وكان معه الحوار التالي:

*مم يتألف الصلصال؟ ومن أين يستخلص؟ وكيف يتم تحويله إلى قطع خزفية؟

**"الصلصال" عبارة عن مادة غضارية لزجة تسمى "الطمي"، وهي متواجدة بكثرة على ضفاف الأنهار والمسطحات المائية، والصيغة العلمية لها "سيلكات الألوميد المائية" حيث يتم تحويلها إلى قطع خزفية بعدة طرق، وهي التشكيل المباشر، ودولاب صنع الخزف، والبناء "بواسطة الشرائح الطينية أو الأحبال الطينية" والقولبة حيث يتم من خلالها استنساخ أي كتلة باستخدام القالب الجصّي، وأكثر الأماكن التي تواجد فيها صنّاع مادة الخزف منطقة "الرقة ـ ضفاف وادي الفرات، وحماه ـ ضفاف نهر العاصي، وسهل الغاب ـ مسطحات مائيّة".

مكانة تاريخية

*تحظى الأعمال الخزفية بمكانة عريقة منذ قدم التاريخ والحضارات، ما تصورك لهذه المكانة؟

**بقيت مكانة الأعمال الخزفية مخلدة في ذاكرة التاريخ، وفي المتاحف العالمية، ويعود السبب إلى أنها مادة أزلية غير محدودة العمر، وتتكون من تمازج ثلاثة عناصر في تكوينها "الطين والماء والنار" وهي مواد قدستها المعتقدات البشرية منذ الأزل وحتى الآن.

*هناك امتداد عميق للخزف في الحضارة السورية، كيف بدأ ومتى؟

**عرفت الحضارة السورية الخزف منذ أكثر من 5000 عام من خلال الحضارات السبع، التي توالت عليها حسب توثيق المتحف الوطني "بدمشق"، وجميعها اشتهرت بتكوين مادة الصلصال وتحويلها إلى أعمال فنية خزفية، وأخصها بالذكر حضارة الأوغاريتيين التي وثّقت أول أبجديات التاريخ على الرُقم والألواح الفخارية.

التدهور والاضمحلال

*لماذا لم يصل الخزف في الفن التشكيلي السوري إلى مقامات الإشباع المعرفي برأيك؟

**يعود الأمر إلى عدّة أسباب أهمها افتقار الخزف السوري إلى خامات بشرية تعمل عليه كأساس تقني وفني، وإلى معلومات علمية موثقة تاريخياً في المراجع البحثية تتمتع بمعرفتها تلك الخامات، ويعود الافتقار هذا إلى حقبة السيطرة العثمانية على "دمشق" أيام السلطان العثماني سليم الأول عندما نقل أمهر صناع الخزف السوريين في ذاك العصر إلى "استنبول"، مما أضعف الخبرة الفنية في المنطقة آن ذاك وبدأت الصناعات الخزفية بالتدهور والاضمحلال، ومن بقي من الخزافين تحفظ على أسراره حول مهنة الخزف، وزالت الأسرار بزواله.

والأمر الآخر: آراء النقاد الحادة ونظرة المثقفين فنياً، المقلة من شأن فن الخزف وغير المدركة لحجمه الحقيقي، كونهم يعتبروه صناعة تطبيقية تخص الاستخدام المنزلي فقط، عاملين على تفريغه من محتواه الفكري.

*هناك غياب ملحوظ لمعارض الخزف في صالات العرض "السورية"، ما تفسيرك لهذا الغياب؟

**المعرض الخزفي هو خلاصة لتجارب الفنان خلال فترة زمنية معينة، يعمل عبرها على تقنية ما، وعندما يصل إلى نتيجة مرضية في عمله يُقدم على طرحها في الوسط الفني بإقامة معرض شخصي لعرضها والاستفادة منه، وأكثر الفنانين يتمنون إقامة معارض شخصية خاصة بفن الخزف، لكن تنقصهم خبرة التعامل والانسجام مع هذه المادة، وقلة وجود ورشات عملية مجهزة بأدوات التجريب والخامات الأولية، أضعفت رغبتهم في الاستمرار، وهذا يفسر غياب معارض الخزف في الوسط التشكيلي السوري.

التأثر بالفن الغربي

*ما مدى تأثر الخزف بالفن التشكيلي الغربي؟ والتحول الذي طرأ عليه في مرحلته الراهنة؟

**تحول الخزف في مرحلته الراهنة إلى مادة أساسية في الفن التشكيلي "النحت الخزفي والتصوير الجداري وإعداد فن الديكور"، واستخدمه العديد من فناني سورية، رغم الإمكانات التقنية المتواضعة لديهم.

أما تأثره بالفن التشكيلي الغربي، فقد أتى نتيجة الاطلاع على ثقافة الغرب، والاستفادة من المواد الأولية والتقنيات، والتجربة اللونية، فأصبحنا نملك نتائج منضبطة أفضل من السابق، ومساحة أوسع للتجريب، وإتقان خصائص الفن الخزفي التطبيقي، الذي يدرس كاختصاص في كلية الفنون التطبيقية "بحلب" ومعهد الفنون التطبيقية "بقلعة دمشق".. كما تأثرت معظم الفنون الباقية بالثقافة الوافدة.

*ما الدول التي اشتهرت بصناعة الخزف؟ ومن هم أكثر الفنانين في العالم شهرة بصناعته وتشكيله؟

**منذ القدم، اشتهرت هذه الصناعة في "سورية والصين واليابان وإيران وتركيا و المغرب العربي ومصر وهولندا واليونان"، ولاحقاً في "ألمانيا وإيطاليا وفرنسا" وبعض الدول المحيطة.

أما أشهر خزافو العالم يذكر منهم "يوهان برينت من ألمانيا، وهلا برينت من هولندا، وباسكال بوري من فرنسا، وأدريان إكنوزل من سويسرا، وعائلة سومينك من الصين، وتعتبر من أقدم العائلات عراقة في هذه الصناعة حيث تعود تجربتهم إلى 4000سنة خلت.

ومن العالم العربي "رشيد قرشي من الجزائر، وناصر الحلبي من لبنان، وحازم الزعبي، من الأردن، وعلي العوض من الكويت، وعمار سعيد من السعودية، محمد مندور، ومحيّ الدين حسين من مصر وأمل مريود".

الولوج إلى حالة الصلصال

*أثناء عملك بتكوين الصلصال، تعيش بين معابر إبداعك الذاتي مغذيّاً التكوين بصوفية الفكر، كيف تصف أبعاد هذه الحالة؟

**قبل البدء بالعمل، يتطلب الولوج إلى حالة الصلصال الكثير من الصفاء النفسي والفكري والتحضير الجسدي، حيث أن انسجام الحالة الإبداعية مع إرادة المادة وخصوصيتها يتطلب جهداً كبيراً من أجل السيطرة عليهما، وأثناء ذلك تغيب أنت للحظات بين لزوجة وطراوة المادة، فتنشغل عن المنحى الفكري مما يقود العمل إلى استجرار الفطرة الكامنة في عمق النفس، لترسم الخطوط الأولى للشكل المتخيل بمصداقية وقيمة أكبر.

*تهيئ للقيام بمعرض فني للخزف، ما خصوصيّة الخليط الابتكاري لمشروعك؟

**شغفي بالمادة وحزني على حرمانها من حقوقها الثقافية والإعلامية دفعني إلى البحث في التقنيات التي استخدمت منذ القدم مثل "الراكو" وهي تقنية إرجاع الأوكسيد إلى لون المعدن في حالته الطبيعية، فمثلاً "أكسيد النحاس" في الحالة العادية يعطي اللون الأخضر وفي تقنية "الراكو" يعطي لون "النحاس الأحمر"، وعندما وصلت إلى نتيجة لونية مرضية، طبقتها على كتل فخارية حديثة كنت قد درست خطوطها لاحقاً، وحملت هذه الكتل بعد إنهائها مخزوني الفكري، وقراءتي البصرية للحداثة في فن الخزف.

*قمت خلال الفترة الماضية بعدّة بمشاريع تنموية متعلقة بتعليم الخزف للأطفال بإيجاز ما خصوصية تلك المشاريع؟

**تعمدت إلى التطرّق ضمن منهجية الخزف التدريسية إلى إشراك عالم الطفل في تجربتي، لما تحمله من أهمية بالغة في صناعة جيل مثقف يدرك قيمة هذا النوع من الفنون وأهميته في تاريخ الحضارات المتعاقبة، ويستطيع بمعرفتها ترجمة بعض القراءات البصرية لديه إلى عمل خزفي من صنعه، يحمل ذكرياته معه إلى المستقبل، ولمقدرتها على تحرير طاقات الطفل الكامنة، حيث تقوم بتفريغ الطاقات السلبية من داخله ومعالجتها بصورة إيجابية من خلال العمل المنتج، فعندما يحس بأهمية نتاجه يدرك مدى أهمية هذه المادة من خلال خلق حياة جديدة له تمتاز بالاستقرار بدلاً من العبثية.

وعلى هامش التطرق إلى حياة الطفل قمنا بعدة نشاطات منها ملتقى أطفال العرب، وورشات عمل مع الأطفال في "اللاذقية" مرفقاً بتوقيع قصة الطفل الطيني وهي نموذج تعليمي يروي بداية التعرف إلى مادة الصلصال.

سمات روحية

حول أعمال الخزاف، قال الفنان التشكيلي السوري "وائل دهان": «ما يميز تجربة الخزاف "علاء الدين نبهان" بحثه الدائم وسعيه نحو الأفق البعيد في اكتشاف الجمال في فن الخزف والأخص مادة الصلصال وما تتحلى به من سمات روحية تولد في النفس الهدوء والتحرر إلى عوالم الإبداع والتشكيل».

وأضاف: «عندما نرى أعماله الخزفية، ندرك منها شغفه الكبير بمادة الصلصال وتشكيلها إلى قطع فنية مختلفة، "جرار محورة وتكوينات نموذجية" تموج عل سطحها ألوان الخزف التي تضج بالماضي البعيد، "الأزرق" يذكرنا بأعمال الخزافين الأجداد، و" النحاسي والأحمر" يفتح أمامنا ذاكرة ممتلئة بالأعمال الزاخرة من فنون التشكيل.

إن "نبهان" يقطف من كل بستان معرفي يكتشفه زهرة تجمع التاريخ وأحداثه ليكوّنها بآنيّة مزركشة يستطيل عنقها نحو الأعالي، لتقول: «أن من صنعها يرى حقيقة الأشياء جيداً».

وقال الفنان التشكيلي السوري "عبد السلام عبد الله": «الخزف قيمة نحتية وتصويرية، لأنه يجسد علاقة الكتلة والفراغ، وعلاقة الألوان مع بعضها، وهذا الدفق يستمده "نبهان" في محاكاته وتفاعله مع مادة الصلصال ذات المحتوى الطيني النبيل».

وأضاف: «بعد المراحل التي قطعها في العمل الخزفي، لم يبقى مهنياً فحسب بل دخل في عالم التخيل والارتقاء إلى تكوين علاقات بصرية ذات محتوى تربوي وتثقيفي للعين المتأملة، وهو شديد الحرص على بناء جيل يتمتع بخصوصية وتراث هذا الفن، الذي أولاه مفرداته السيكولوجية والنفسية، ويشعرنا خلالها بعمق رسالته التي عمل على طرحها وتنميتها في مادة الصلصال.

الفنان في سطور:

ـ تخرج "نبهان" في معهد الفنون التطبيقية "بدمشق" عام 2004.

ـ حاز على جوائز مختلفة منها المرتبة الأولى للخزف في مسابقة مهرجان التراث الشعبي 2004، له مشاركات في بعض المعارض.

ـ مؤلف قصة الطفل الطيني.

  • مخرج ومعد لستة كتب تختص بفنون الأطفال.
  • ـ أعماله مقتناة في "سورية، ايطالية، هولندا، فرنسا".