"دمشق" المدينة المكتظة بالحِرف اليدوية، الحِرف التي عانقت جدرانها لتذكر الزائر بعراقة المدينة وقِدمها، ومن إحدى هذه الحِرف اليدوية المشهورة "تصديف الخشب" المهنة التي لها ثقافة معينة خاصة بأهل الشام.

موقع "eSyria" بتاريخ 10/8/2009 قام بزيارة إلى الشارع المستقيم في منظقة "باب شرقي" حيث ورش "تصديف الخشب"، والتقى مع بعض الذين لهم باع طويل في هذه المهنة.

تعتمد المهنة على خشب الجوز، فهو الأنسب والأصلح، قوته بسبب أليافه المتماسكة وألوانه الجميلة والساحرة

السيد "أحمد الجرودي" من أرباب هذه المهنة يقول: «مهنة "تصديف الخشب" تحولت من مهنة الأغنياء إلى مهنة الذكريات والعيش فيها؛ هكذا يمكن وصف هذه المهنة القديمة التي يتوارثها الأبناء عن الآباء في "دمشق". اليوم قل زبائنها لغلاء قيمتها المادية، وقد ساهم في ذلك غلاء خشب الجوز الذي يعدُّ الأفضل لعملية التصديف، فاقتصر العمل على فئة محددة من الأغنياء، بينما اكتفى السائح الأجنبي باقتناء القطع الصغيرة كذكرى عن هذه الحرفة الفنية».

يكمل "أحمد" حديثه معنا وهو يقوم بتصديف إحدى القطع قائلاً: «تعتمد المهنة على خشب الجوز، فهو الأنسب والأصلح، قوته بسبب أليافه المتماسكة وألوانه الجميلة والساحرة».

وعن مراحل العمل يقول: «بعد تجفيف الخشب يتمُّ تفصيله حسب الطلب عند محلات تجارة الموبيليا، ومن ثمّ تبدأ عملية التصديف على مراحل، فيحفر الرسم المطلوب ويشك بالقصدير ويفرغ مكان الصدف ليتمَّ بعدها تنزيله. نقوم بجلب الصدف من البحر من داخل وخارج سورية، علماً أن لكل نوع منها سعر يختلف عن الآخر».

ذوق وفن

أما مصاعب المهنة يلخصها "أحمد": «إنّها مهنة بحاجة لصبر ودقة وروح فنية غير موجودة دائماً، وربما هذا السبب في عدم وجود جيلٍ جديدٍ يتعلم المهنة، حيث يأتينا الراغب بتعلم المهنة لفترة بسيطة يتعلم القليل ولكنه سرعان ما يترك لما تحتاجه من دقة وصبر، فضلاً عما سيكشفه من معاناة عندما يعرف معاناتنا بتسويق منتجاتنا، ولكن رغم ذلك تبقى لذة هذه المهنة أنّها من المهن اليدوية التي لها تاريخ جميل في حياة الدمشقيين».

يتابع "أحمد": «لهذه القطع الخشبية المطعَّمة بالصدف أنواع يعرفها الخبير من نظرة وتستهوينا بحسب ميولنا منها "التخريق" مثل التاج والذي يعتمد على تفريغ الخشب على حساب الصدف، و"الطلس" والذي يتميَّز بكثافة الصدف حتى يكاد يغيب الخشب مثل "البيرو"، و"المشجَّر" يعتمد على الزخارف النباتية، و"الاسطنبولي" يتميَّز بتعقيد ودقة الرسمة». وللصدف أنواع يخبرنا عنها أحمد بالقول: « نوع الصدف يؤثر على سعر القطعة فهناك صدف "الأسنان" أي "البحري" وهو غالي الثمن، يصل سعر الكيلو إلى 2400 ليرة، والصدف "الديري" "النهري" وسمي كذلك لأن مصدره نهر الفرات، وهو أرخص فيباع الكيلو منه بـ 50 ليرة».

للإبداع معنى آخر

وعن نوعية الزبائن الذين يرتادون الورشة يقول "أحمد": «لدينا زبائن خاصون نوعاً ما، و هنا نقوم بتفصيل غرف النوم وجهاز العروس بدءاً من السرير وإلى أدق التفاصيل التي تتعلق بتجهيز مستلزمات العرس، مازال هناك إقبال بسيط على هذه المهنة والسبب يعود إلى عراقتها وروعتها الفنية والجمالية، فعندما تدخل إلى الورشة ينتابك شعور أنك في بيت دمشقي قديم، وأغلب زبائننا هم من الدمشقيين الذين مازالوا محافظين على تراث هذه المدينة».

وخلال جولتنا بين الورش التقينا بالسيد "رفعت الداغر" شاب دمشقي مقبل على حياة جديدة يبحث عن غرفة نوم مصدفة على الطريقة الدمشقية: «مهنة "تصديف الخشب" من المهن اليدوية التي لها رونقها الخاص بها، وأنا هنا لأختار نموذجاً معيناً أُفصل من خلاله غرفة نوم دمشقية لي ولزوجتي، وقد قمت باختيار نموذج جميل مصدف بلون البحر السوري. فعلى الرغم من أسعار هذه القطع الغالية نوعاً ما ولكن يبقى وجودها في بيت دمشقي هو الأغلى. أنا وخطيبتي مصران على أن يكون أساس منزلنا من هذا النوع، وذلك لنحافظ على عراقة تراثنا الدمشقي الجميل، وكما أدعو جميع الشبان والشابات أن يؤسسوا أساس منزلهم من هذا النوع الدمشقي المصدف».

جولتنا كانت طويلة في حيّ "القيمرية" و"شارع الأمين" وخلالها التقينا بالسيد "أنس عبدالقادر" أحد أصحاب ورش "تصديف الخشب" قال: «لدينا قصص ممتعة خلال احتكاكنا بالسائح الأجنبي، ففي عمليات البيع والشراء التي تتمُّ في السوق تسمع لغة ثالثة مختلفة، فالسائح الذي يودُّ الشراء لا يتقن العربية، كما أن الحِرفي لا يتقن لغة الوافد تماماً (الإنكليزية، الفرنسية،الألمانية، الإسبانية، الروسية..) الأمر الذي يدفع بالطرفين إلى التفاهم بلغة ركيكة تحمل مفردات من هذه اللغة وتلك. غير أن القطعة المتقنة الصنع والتي صدفت بطريقة فنية رائعة تنقذ الموقف بجمالها الصامت وتخرج البائع والشاري من المأزق، إذ تفصح عن نفسها بسلاسة ودون لغة، فمعايير الجمال مهما تباينت بين الشعوب تبقى متقاربةً وواحدةً».