ودّعت دمشق عصر الأربعاء أكبر علماءها, العلّامة الكبير "محمد أديب الكلاس", فقد اكتظ الجامع الأموي في دمشق, بعشرات الآلاف من المصليين, الذين جاؤوا من مختلف الأحياء ليشيعوا الشيخ المربي إلى مثواه الأخير في مقبرة "باب الصغير", فالشيخ "أديب" يعتبر من أكابر علماء دمشق والعالم الأسلامي ككل, وقد شارك في التشيع ممثلين عن مختلف الفعاليات الدينية المحلية والعربية والاسلامية.

وأمّ المصلين في صلاة العصر الشيخ "نذار الخطيب" إمام "الأموي", وثم صلى الشيخ "أحمد الكلاس" على والده المرحوم, وصلى خلفه عدد كبير من علماء دمشق وعلى رأسهم "أحمد سامر القباني" مدير أوقاف دمشق, و الشيخ"محمد نعيم عرقسوسي", والشيخ "عبد اللطيف فرفور", والشيخ"محمد خير فاطمة", وجُل علماء دمشق, كما حضر الصلاة علماء من كافة المحافظات السورية ووفد من علماء لبنان الشقيق.

يشبه الفاروق "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه لما يتمتع به من طبع يقارع الباطل ولا يخشى في الله لومة لائم

وبعد الانتهاء الصلاة على الفقيد, وقف الأستاذ "أحمد سامر القباني" ليعزي أهل الفقيد وتلاميذته وعموم الحاضرين, ثم أعطى الكلمة للشيخ "محمد سامر النص", الذي تحدث بإسم طلاب الشيخ "الكلاس", وعن علماء دمشق خطب العلامة الشيخ "كرّيم راجح", وختم الشيخ "أسامة الرفاعي" بالدعاء.

الشيخ أديب الكلاس

وخرجت الجنازة من الجامع الأموي, ومرت بسوق "الحميدية" ثم باب "الجابية", لتصل إلى مقبرة "باب الصغير", حيث دفن الشيخ "الكلاس" هناك.

وكانت ولادة الشيخ "محمد أديب الكلاس" بن "أحمد" بن الحاج "ديب", "الكلاس" شهرةً وعملاً في "دمشق", وتحديداً في حي "القيمرية" عام 1921, والده "أحمد الكلاس" كان مجاهداً ضد المستعمر "الفرنسي" ، ووالدته هي السيدة "درية الكلاس", عرفت بسعة الصدر والأخلاق الحسنة والحلم والأدب وقد توفيت والشيخ "محمد أديب الكلاس" مازال غلاماً, فقامت ببعض شؤونه أخته وخالته امرأة أبيه وعُرف الشيخ منذ صغره بنشاطه وذكائه واعترافه بالحق لغيره .

أثناء الصلاة على الشيخ الكلاس

وبدأ دراسته في كتاتيب المشايخ لتلقي العلوم النافعة, وهي مدارس أهلية تأخذ أقساطاً مقابل تعليم الطلاب رغبةً من والده بتنشأته بعيداً عن المدارس الحكومية أيام الاحتلال "الفرنسي"، فدرس الشيخ في المدرسة "الكاملية"، ثم المدرسة "السفرجلانية" حيث أدرك الشيخ الجليل "محمد عيد السفرجلاني" وهو يومئذٍ شيخ الشام على الإطلاق، ثم انتقل إلى المدرسة "الأمينية" وكان فيها الشيخ "كامل البغال".

ولما بلغ عشر سنوات عام 1931, قرأ على الشيخ "محمد صالح الفرفور" كتاب "الأربعين النووية" و مبادئ الفقه بـ "نور الإيضاح" ثم وضعه والده بمهنة الخياطة وكان يعمل حتى منتصف الليل ، فلم يستطع متابعة الشيخ "محمد صالح الفرفور" في هذه الآونة .

مسير الجنازة

عمل بعد ذلك مع والده بحرفة "الكلاسة", ثم عاد إلى العلامة "محمد صالح فرفور" فلما رآه العلامة مرة ثانية رحب به قائلاً: «وجهك أم ضوء القمر», لما عَرف منه من نباهته وفطنته وحفظه . وجعله في حلقة الأستاذ "عبد الحليم فارس"، فقرأ عليه كتب "الدروس النحوية" الجزء الثاني ، وحاز المرتبة الأولى بالامتحان به ، وكانت جائزته هدية من المربي الشيخ "محمد صالح الفرفور" كتاباً "الرسالة القشيرية"، فكان الشيخ يعتز بهذا الكتاب إلى مماته, ثم قرأ الكتاب الثالث والرابع و "ابن عقيل" و"البلاغة الواضحة"، وقرأ أيضاً عند الشيخ "عبد الرزاق الحلبي" بعض متون الفقه ، ثم قرأ علم التوحيد من أمهات الكتب المعتمدة على الشيخ العلامة "محمد صالح الفرفور"، وتعلم منه جل أبواب العلوم والفنون والمنطق والفرائض والتفسير والحديث والفقه والعروض ومصطلح الحديث والتصوف والتجويد وبعضاً من خلاصة الحساب للإمام "العاملي" .

في تلك المرحلة, قسم الشيخ "أديب" وقته, فكان الفجر وقتاً للعبادة, والفترة التي تليه خصصها للدرس في حاشية "ابن عابدين" وفي المساء بعد المغرب, يتابع دروسه أما في النهار فكان يعمل مع والده .

ولقد حفظ الشيخ ألفية "ابن مالك" وكتب خلاصة دروسه وكررها للحفظ أثناء عمله في النهار.

نبغ الشيخ نبوغاً كبيراً وكأنه حوى في صدره كل ما قرأه ووعاه حتى غدا جبلاً من جبال العلم يمشي على الأرض و مع ذلك لم يترك مساعدة والده في عمله ، وكان يحرص على نيل رضاه يعمل معه نهاراً و يتابع تحصيله العلمي ليلاً .

ثم تفرغ الشيخ للعلم الشرعي، فكان إماماً وخطيباً في العديد من مساجد "دمشق" ، ومدرساً للعلوم التي تلقاها من مشايخه ، ثم كلل الشيخ علومه بالقراءة على العلامة الطبيب الشيخ "محمد أبو اليسر عابدين" مفتي سوريا الذي كان يقول له : «ليتني عرفتك من قبل», لما أعجبه من علمه، وإطلاعه، وتدقيقه لمسائل العلوم، والحجة البالغة والتواضع والزهد .

قرأ الشيخ على كثير من علماء "دمشق" وجلهم أجازوه فقد قرأ على الشيخ "محمود فايز الديرعطاني" بعضاً من سور القرآن الكريم, وعلى الشيخ "فوزي المنّير"، كما أجازه العلامة "محمد صالح الفرفور" إجازة عامة بالعلوم الشرعية والعربية وغيرها، كما أجازه الشيخ الطبيب "أبو اليسر عابدين" مفتي الجمهورية العربية السورية سابقاً, كما نال أيضاً إجازة من الشيخ المربي "محمد سعيد البرهاني" بالطريقة الشاذلية ، وإجازة من الشيخ "أحمد وهاج الصديقي الباكستاني" بالطريقة "النقشبندية".

وتبادل الإجازة مع الشيخ "عبد الرزاق الحلبي" والشيخ "محمد بن علوي المالكي".

برع الشيخ بالمناظرة وإبطال الشبهات، والرد على أهل الأهواء والملحدين والمبتدعين، كما أن له شغفاً بالتوحيد وعلم الكلام ولذلك فهو صاحب حجة وبرهان وإقناع مع رحابة صدر شديدة وتواضع جم وزهد كبير , وقد وصفه الشيخ أبو اليسر عابدين بأنه «يشبه الفاروق "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه لما يتمتع به من طبع يقارع الباطل ولا يخشى في الله لومة لائم» .

وكان ُيدرّس في معهد" الفتح الإسلامي" منذ تأسيسه، والمدرسة "الأمينية"، وبعض الثانويات كدار الثقافة وثانوية الشرق , وكان يتواضع لطالب العلم ، ولا يرد طالباً.

شغل الشيخ "الكلاس" عدة مناصب فتولى خطابة في مسجد " تحت القناطر " قرب مكتب "عنبر", وفي مسجد "القطط" قرب الجامع الأموي وكذلك مسجد "السيدة رقية" رضي الله عنها في محلة "العمارة"، ثم في مسجد "تنكز"، وكذلك عمل خطيباً وإماماً في جامع "الخير" في حي "المهاجرين"، ومدرساً فيه للفتوى، وأخيراً ًشغل منصب خطيب جامع "الحمد" على رابية "قاسيون" المطلة على "دمشق"، كما ودرس في معهد "الفتح الإسلامي" في قسم التخصص بفرعيه للإناث والذكور ودرس في ثانويتين "دار الثقافة" ، وثانوية "الشرق"، والمدرسة "الأمينية" التي كانت في باب "الجابية".