الأوقاف أو ما يسمى الأحباس عند البعض أسلوب فريد من نوعه من النظام العربي الإسلامي، كانت فكرته مبنية على مبدأ الصدقة الجارية، مثل إقامة مدارس للتعليم المجاني مع صرف رواتب للطلاب مع الإنفاق على أكلهم وشربهم، ووقف قطعة أرض أو بستان على أن يكون ريعها للفقراء

وبعضهم كان يوقف بئر ماء ليأخذ منه أصحاب الحاجات حاجاتهم، ومنهم من رصد أموالاً لبناء الحصون وترميمها، ومنهم من ترك خاناً أو حماماً، محلات تجارية وغير ذلك من أجل أن ينفق منها على الفقراء والمساكين وابن السبيل وباقي المحتاجين.

ولعل الشيء المدهش أن هناك بعض أنواع الوقف غريبة وقد لا تخطر على بال، مثل وقف الزبادي والصحون المكسورة ووقف القطط والخيول.

ظاهرة الوقف وأثرها في المجتمع على الصعد كافة نرصدها من خلال هذا الحديث مع السيد عبد المجيد فتنة الباحث والصحفي عضو جمعية إحياء التراث الشعبي في محافظة دمشق.

تاريخ الوقف:

يقول السيد عبد المجيد فتنة : الوقف هو جزء مهم من تاريخ البلاد، ومن تراثهم الفكري، بل يعتبر مؤشر قوي لسلوكهم في الحياة والتعبير عن أخلاقهم، ففي الوقت الذي كان فيه البعض يوقف بعضاً من أملاكه لوجه من وجوه الخير، كنا نجد البعض يحاول استغلال هذا الوقف لمصلحته، وخاصة إذا كان مشرفاً أميراً أو سلطاناًً إلى أن نظمت عملية الوقف، وأصبحت أكثر دقة وتحديداً في المدخولات والمصروفات، وغير ذلك من أمور تنظيمية.

ولعل بداية انتشار الوقف كان في المدن، وما يحيط بها من قرى، ولم تلبث هذه الأوقاف حتى اتسعت في القرن الثالث الهجري، حيث أشار" ابن جبير" إلى أن بعض الأمراء ضمّن أراضي الأوقاف في بعض مناطق مصر بمبلغ ألف وخمسمائة ألف درهم سنوياً، وكان يدفع هذا المبلغ لأصحاب الحاجات، وما بقي من الأموال كان يذهب إلى خزينة بيت المال في مصر.

يضيف السيد عبد المجيد: لعل الشيء اللافت للنظر أن هذه الأوقاف بدأت تسهم بشكل إيجابي في عمران المدن وتطورها بعد أن تحولت من ظاهرة خاصة إلى ظاهرة عامة، فأصبح الوقف يشمل الدكاكين والأسواق التجارية والمطاحن والأفران والمنازل، وسبيل المياه، وتوسعت الأوقاف حتى أصبحت تشمل قرى بكاملها وبساتين وأراضي، ينفق منها على أصحاب الحاجات.

وفي القرن السادس الهجري زادت أنواع الأوقاف كثيراً وتوسعت أعمالها، فأصبح هناك أوقاف خاصة لتحصين المدن وبناء الأسوار وإنشاء القلاع لحفظ البلاد من هجمات الفرنجة وانتشار المغول.

وما بين القرنين الـ / 13 و16/ميلادي، يضيف الباحث فتنة: توسعت الاحباس كثيراً وأصبح ينفق منها على الغرباء والرفق بالحيوان وصيانة الطرق ورصفها، ودخلت أملاك جديدة للأوقاف فأصبحت تشمل وخاصة في دمشق المصانع مثل معاصر الزيتون، الطواحين ،الأفران ،مصانع النسيج ، والحمامات لينفق منها على طلبة العلم مع راتب شهري إضافة إلى إطعامهم وتلبية حاجاتهم، كما شملت الخانات والوكالات فأصبحت معظم مرافق مدينة دمشق تحت يد الأوقاف.

جبر الخواطر:

كما عرف في دمشق أنواع أخرى من الوقف لم تعرف من قبل في أي بلد من بلدان العالم، يتابع الباحث فتنة: " يقول ابن بطوطة: شاهدت يوماً في أحد أزقة دمشق مملوكاً صغيراً، وقد سقطت من يده صفحة من الفخار الصيني- وهم يسمونها صحن- فكسرت، واجتمع عليه الناس، فقال له بعضهم: اجمع شقفها، واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني، فجمعها وذهب الرجل معه إليه فأراه إياها فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن، وهذا من أحسن الأعمال فإن سيد الغلام لا بد أن يضربه أو ينهره، مما سيؤدي إلى كسر قلبه، فكان هذا الوقف جبراً للقلوب المكسورة)).

وقف حليب الأطفال:

ولعل من أطرف الأوقاف في دمشق، ومن أكثرها غرابة وجود وقف في قلعة دمشق، أوقفه صلاح الدين الأيوبي لإمداد الأمهات بالحليب والسكر لتغذية أطفالهن، حيث جعل في أحد أبواب القلعة ميزاباً يسيل منه الحليب، وميزاباً آخر يسيل منه ماء مذاب بالسكر، وحدد للأمهات يومين في الأسبوع ليأخذان خلالهما من هذا الوقف حاجتهن من الحليب والسكر.

تجهيز البنات للزواج:

وكان في دمشق من الأوقاف ما هو مدهش ولافت للنظر، حيث كان هناك وقف خاص بتجهيز البنات الفقيرات إلى أزواجهن، فكان يصرف منه على لباس هؤلاء البنات، وشراء جميع الاحتياجات التي تلزم العروس حتى تدخل بيت الزوجية دون أن ينقصها شيء، وكي تشعر بأنها كغيرها من الفتيات، ويتم ذلك كله بسرية تامة، كي لا ينفضح أمر الأسر الفقيرة، وينتشر على ألسنة الناس مدى فقرها وحاجتها.

رعاية الأيتام:

من أبرز المؤسسات الخيرية التي وجدت في دمشق يقول السيد عبد المجيد: بيوت العناية بالأيتام ورعايتهم، فكان المجتمع يعطف عليهم، فجعلت لهم بيوت خاصة، وأوقفت لهم الأوقاف من أجل إطعامهم وكسوتهم وتعليمهم.

رعاية الحيوان:

ومن الأوقاف التي كانت في دمشق ولم تكن في غيرها من باقي بلاد الدنيا، الوقف الخاص بالحيوانات، حيث يقدم لها الطعام والشراب والرعاية الكاملة ، يقول السيد/ فتنة/: كان هناك منزل في سوق ساروجة منزل خاص بإيواء الحيوانات الأليفة مثل القطط ، يقدم لها الرعاية والحماية الكاملة، كما كانت هناك أوقاف خاصة بالخيول الكبيرة والمريضة والعاجزة، حيث توضع في المرج- وهو مكان معرض دمشق الدولي القديم- ويقدم لها حاجتها من الطعام والطبابة، وتبقى في هذا المكان حتى تموت.

الخير المتوارث:

كانت هذه ألوان مختلفة وصور عديدة لبعض نوازع النفس الإنسانية وهي نزعة الخير، وكلها تدل على حس إنساني رفيع فمن يجبر الخواطر المكسورة ومن يفكر بالضعيف واليتيم ومن يفكر بتجهيز البنات الفقيرات، إنه بلا شك إنسان مرهف لا يمكن ان يفكر بأذية غيره، بل هو حريص على نشر الخير أينما وجد، بل لايمكن أن ينقطع الخير من المجتمع الذي يعيش فيه، لأنه يورث هذه الأخلاق وهذا الفكر للأجيال التي تأتي من بعده، هذا هو مجتمع دمشق الذي هو مجتمع سورية.