يُعدّ "عرق السوس" من المشروبات الشعبية المفضلة لدى "الدمشقيين" خاصة خلال المناسبات والأعياد، إضافةً إلى مشروب "التمر الهندي" الذي يلقب بملك المائدة الشرقية، ولكون المشروبين يشكلان تراثاً عريقاً في "دمشق" نرى باعتها يرتدون لباساً فلكلورياً يعود بنا إلى أوائل القرن الماضي، عدا عن ذلك فهم يطلقون نداءات متوارثة تطرب لها الأسماع للتعريف بنوع الشراب الذي يريدون بيعه للمارة، من تلك النداءات يقولون: «عرق سوس يا بارد، لولا كي يا تمرة لا شربنا ولا روينا»، هذا إلى جانب الحالات المرضية التي يدخل "عرق السوس والتمر الهندي" في علاجها.

الفصيلة والمنشأ ـ "عرق السوس"

بأنها تضر الكلى وتحدث الحصى، لأن السوس يحتوي على حامضات الكلس التي تترسب في الكلى الضعيفة

يعد من النباتات العشبية المعمرة، التي تتمتع بجذور طويلة، وتنسب إلى "الفصيلة القرنية" ويسمى عودها "عود السوس" وجذورها "أصل السوس" وتمتد عروقها في الأرض نحو عشرة أذرع، ويغلظ "العرق" أحياناً حتى 20 سنتيمتراً، وعند استخدامها تقلع الجذور، وتترك أكواماً لتتخمر ولونها يزدد اصفراراً ثم تنظف وتصدّر إلى العالم قطعاً صغيرة أو مطبوخة.

بائع العرق سوس

تنمو النبتة في جنوب "إفريقيا وأواسط أسيا"، وتزرع في الكثير من البقاع المروية جيداً من أجل الزيادة في كمية استثمارها، رغم الصفات التي تتمتع بها من احتمال الحرارة الشديدة والجفاف، فقد امتدت زراعتها إلى "أوروبا" بعد أن نقلها العرب إلى هناك، فبدأت في "إسبانيا" ومنها انتشرت إلى العالم.

وتتميّز عروق "السوس" عن النباتات الأخرى بتحمل العطش لكونها تنمو فوق أرض جرداء بدون عناية، وأحياناً تصل أغصانها المكسوة بالورق الأخضر إلى علو يبلغ ارتفاعه 50 سنتيمتراً.

حلوى العرق سوس

أما "التمر الهندي" فهو ثمرة لشجر مثمر من ذات الفصيلة، كبير الحجم، جميل الشكل كشجر "الرمان" ويعرف باسم "الصبّار"، وفي "السودان" باسم "العرديب"، وبذوره ذات طعم حامض وقيل أن موطنه الأصلي "إفريقيا الاستوائية".. لذلك تنتج زراعته في المناطق الحارة، كما أنه عرف في تاريخ "مصر والهند" منذ القدم في مجالي الغذاء والطب.

يتميز مشروب "العرديب" بسهولة تحضيره وصنعه، فبعد أن تقطف الثمار وتقشر ويعجن لبها جيداً يضاف إليها القليل من عصير "قصب السكر" لحفظها من الفساد، أو تنظف الثمار من الألياف والنوى وتنقع في الماء المغلي لمدة ربع ساعة ثم تصفى وتغلا مرة ثانية حتى تصبح مشابهة لرب البندورة، وتحفظ بعدها في وعاء من الخزف "الفخار" أو الزجاج، وتستعمل عند الحاجة في صنع الشراب، ولها خاصية النكهة الطيبة عند إضافتها إلى الأطعمة خاصة الوجبات الساخنة.

عنقود التمر الهندي

عادات تراثية

حول تاريخ شراب "عرق السوس والتمر الهندي" عند الدمشقيين زرنا "سوق الحميدية" والتقينا أحد باعته الجوالين الذي قال: «لنا تاريخ عريق مع هذه المشروبات، ولا زلنا قائمين على صناعتها منذ 30 عاماً، وتعتبر في "دمشق" من أفضل المشروبات وأكثرها تميزاً وطلباً في الأعياد والمناسبات السعيدة مثل الاحتفال "بالمولد النبوي وعيد الفطر" وجلسات التسبيح وحفلات الخطوبة والزفاف أو قدوم مولود جديد إلى العائلة.

وفيما يتعلق بطريقة تحضير شراب "التمر الهندي"، أضاف: «حتى نصنع شراباً ذا مذاق لذيذ نأتي بعنقود ناضج من "التمر"، نفرطه وننقع ثماره لمدة سبع ساعات في الماء النقي، ثم نضعها في كيس مصنوع من الشاش الناعم، ونقوم بعصرها جيداً، وخلاصة العصر نضيف إليها "السكر والماء زهر" للتحسين من نكهتها، وهناك اختلاف بسيط في العمل على تحضير "عرق السوس"، فبعد أن نأتي به عشبة خضراء ليّنة نضعها في قدر يبلغ الماء منتصفه تقريباً، ثم نقوم بدعكها باليدين حتى يصبح لونها بنياً، وبعد ذلك نضعها في كيس قماشي ونحكم إغلاقه، ثم نمدده تحت صنبور الماء بحيث تنزل عليه القطرات على شكل خيط، والعصارة الناتجة من أسفل الكيس هي الشراب المطلوب ويكون لونها بنياً مائلاً إلى السواد، وبعد الانتهاء من جمعها يضاف إليها "الماء زهر" من أجل مذاقها ونكهتها، وتقدم باردةً في كأس مع "الثلج". المميز أن شراب "عرق السوس" لا يحتاج إلى "السكر" من أجل حلاوة طعمه لأن عروقه تتسم بحلاوة الطعم.

وحول طبيعة اللباس الفلكلوري المخصص لبيع هذه المشروبات، قال: «شاع اللباس منذ أوائل القرن الماضي لا سيما الفترة "العثمانية"، ويتألف من "الطربوش والصدرية وحزام أحمر عريض يلف على منطقة البطن ثم السروال، وكندرة حلبية كسرية" إضافة إلى أدوات العمل المؤلفة من "إبريق ماء وعدة كؤوس زجاجية، وترمس نحاسي كبير بعض الشيء في حجمه يحوي في جوفه العصير المراد بيعه"، ويثبت على الظهر جيداً بواسطة حزام جلدي لسهولة الصب أثناء تقديم كأس العصير».

وأضاف: «إن شراب "عرق السوس والتمر الندي" مهنة عريقة الأصل، وهي منتشرة بكثرة في "الشام" لفائدتها الطبية، ورغبة الناس بها، والدخل المالي الجيد الذي تعود به على صاحبها في أخر النهار، ومعظم باعة هذه المشروبات يختارون من أجل وفرة البيع مناطق شعبية تفوح منها روائح القدم التاريخي والأثري مثل مناطق "باب توما والجامع الأموي وسوق الحميدية والقيمرية والصالحية"، وجميعها تتصف بحضور الوفود السياحية والأجنبية، التي يعرف عنها محبتها للتراث "الدمشقي" وتلهفها لتذوق الوجبات والمشروبات الشرقية التي تصنع في "الشام"».

آراء المارّة في مذاقها وطلبها الشديد

أما مذاقها المحبب، وأسباب طلبها الشديد من المارة والبائعين "eSyria" زار "سوق الحميدية" في 15/8/2008، والتقى عدداً من المارة وسألهم عن رأيهم وانطباعهم حول هذه المشروبات التراثية، والبداية كانت مع السيد "حازم عيدو" الذي قال: «يعدّ مشروب "التمر الهندي وعرق السوس" تقليداً عريقاً ومتوارثاً لدى الدمشقيين، ومهنة تراثية تعبر عن العادات الخالدة في "دمشق"، ويكثر باعتهما بين الحارات والأحياء الشعبية خاصة في "الشام القديمة"، وعند الأماكن المكتظة بالسكان "كالجامع الأموي بكثرة وسوق الحميدية والأسواق المحيطة به والمتفرعة عنه"»، وأضاف: «مهما امتد الزمن في "دمشق" يبقى "عرق السوس والتمر الهندي" من المشروبات المفضلة والمحببة أكثر من غيرها لدى الناس الذين يتلهفون لتذوقها وشربها باستمرار، خاصة في "الصيف" وتحديداً ساعات الظهيرة، إذ أنهم يجدونها باردة، طيبة الطعم، حلوة المذاق، تذهب الحر وتروي العطش وتشعر بالحيوية، عدا عن الفائدة الطبية التي تقدمها للجسم والأعصاب والنشاط الذي تحدثه في حركة الدورة الدموية.

وقال السيد "راضي كحال" زائر في الجامع الأموي: «ما يميز "عرق السوس والتمر الهندي" في "دمشق" أنهما من التقاليد المتوارثة حتى الآن بدءاً بعدّة العمل وانتهاءً باللباس التراثي أو الفلكلوري، الذي يمنح هذه الصنعة خصوصيتها، ويزيد في إقبال الناس عليها، هذا إلى جانب الرخص في سعر الكأس المملوء بأحدها عند شرائه من بائع العصير، وبرودة محتواه في الفم حين يشرب ويرطب الجسم».

وأضاف: «يمكن تصنيع "عرق السوس والتمر الهندي" في البيت بسهولة بالغة، ونحن نواظب على صنعها في المنزل بين الحين والآخر، نظراً لفائدتها الجمّة في منح الحيوية والقدرة للجسم، وتجديد نشاطه وقوته، كما أنها مشروبات لها خاصية دينية امتزجت مع التاريخ والحاضر "الدمشقي" في المناسبات الاحتفالية والدينية والمولدية».

وقالت المسنة "نائلة كوفاني" من سكان "حي القيمرية في الشام القديمة": «إنها تفضل مشروب "التمر الهندي أكثر من عرق السوس"، لفائدته ومذاقه الحلو الذي لا ينسى ما إن يتلمضه اللسان ويستقر في المعدة»، مشيرة إلى أن كلا المشروبين يخففان من لهجة التذمر والغضب في الحر الشديد، لكونهما يبتاعان باردين، ولهما سمة الترطيب السريع للجسم ومنحه النشوة والاعتدال.

في الطب القديم والحديث

عرفت جذور "عرق السوس" في بلاد "بابل" منذ أكثر من أربعين عاماً، واستعملت في الطب كمقوي عام للجسد، واستخدمها المصريون القدماء واستحضروا من منقوع جذورها شراباً طيباً اعتبروه غذاء ودواء، والأمر الأكثر غرابة أن علماء الآثار اكتشفوا بقايا "عروق السوس" في مقبرة "توت عنخ أمون" سنة 1923 عندما تم فتحها، وقيل: «إن الأطباء الفراعنة مزجوا العروق بالأدوية المرة لإخفاء طعمها وعالجوا بها أمراض الكبد والأمعاء». وقد وصفها الطبيب اليوناني "ثيوقراطيس" لمعالجة "السعال الجاف والربو" ومحاربة العطش.

أما العرب فأدخلوها في الغذاء بعد أن تعرفوا على فوائدها وأهميتها في الشفاء، فقال فيها "ابن سينا": «إن منقوع "عرق السوس" يصفي الصوت، وينقي قصبة الرئة».

وقال "ابن البيطار": «أنفع ما في هذا النبات عصارة أصله التي تتمتع بحلاوة الطعم، فإن وضعت تحت اللسان رطبة الفم وامتص ماؤها، وإذا شربت أوقفت التهاب المعدة وأوجاع الصدر والكبد والمثانة وألم الكلى، وإن جففت العروق وسحقت نفعت "للدوحاس" ضماداً».

وحذر العالم "داوود الأنطاكي" من خطورة الإفراط في تناولها، وقال: «بأنها تضر الكلى وتحدث الحصى، لأن السوس يحتوي على حامضات الكلس التي تترسب في الكلى الضعيفة».

أثبتت البحوث العلمية في الطب الحديث أن "عرق السوس" يحتوي على16% من السكر، و28% من النشاء، و20% من الماء، كما يحتوي الكثير من أملاح الكالسيوم والبوتاسيوم وهرمونات جنسية ومواد صابونية تسبب الرغوة في شرابه.

وأشارت إلى أنه يعتبر علاجاً فعالاً مقوياً ومنقياً للدم، لا سيما وأن أحد مركباته ساعدت في الشفاء من مرض "إديسون"، وهو أحد أمراض فقر الدم التي حيرت الباحثين والأطباء ولم يستطيعوا العثور على الدواء المناسب للتغلب عليها.

بينت البحوث أيضاً أن لشراب "عرق السوس" مهمة أساسية في تنبيه غدة الكظر من أجل إفراز الكورتيزون الذي يفيد في "مداواة الروماتيزم والربو وأمراض العين والجلد"، وينصح الأطباء بتناول من 40 ــ 60غراماً في اليوم من منقوعه المذاب في ماء نقي بحيث يؤخذ على شكل جرعات أثناء ساعات النهار، وذلك حتى أربعة أسابيع لمن يعانون عسر الهضم وقرحة المعدة والتهاب الأمعاء.

عرق السوس في الصناعة

كشف الأخصائيون في تجاربهم أن نبات "عرق السوس" يدخل في صناعة جدران المنازل الجاهزة، وأثبتوا في دراساتهم أن خلطها بطرق كيميائية خاصة يجعلها عازلة للحرارة. ومن جانب آخر استخدم كمادة رئيسية في صناعة السجائر، حيث ترش أوراق التبغ بمسحوقه أو توضع في محلوله لأنه يخفف من حدة تأثيرها على الرئتين ويكسبها مذاقاً أطيب. أما التجارب العلمية فقد أثبتت أن الرغوة التي تظهر عند غليه تعتبر من أحسن المواد لإطفاء الحريق، وتستخدم اليوم في أجهزة الإطفاء والمعامل الكيماوية، ومصافي البترول.