"دمشق" لوحة "فسيفساء" جميلة، رسمت أحجارها القديمة بألوان كثيرة، تعشقت عبر القرون لتكون لوحة نادرة، تبهر باستمرار الباحثين عن تاريخها، "حّي باب توما" أحد أعرق أحياء "دمشق"، وأكثرها تنوعاً وانفتاحاً على الآخرين.

موقع "eSyria" التقى بتاريخ 16/12/2009 مع مختار "حّي باب توما" السيد "كبرييل شاهين" "أبا رياض"، الذي حدثنا عن أهم مظاهر الحياة الاجتماعية في هذا الحّي العتيق، وبدأ بقوله: «يعد حّي "باب توما" من أكثر أحّياء "دمشق" تنوعاً وخصوصية، إذ يتميز بوجود الشوارع وكنائس التي بنيت منذ العهد الروماني، ويقطن في أزقة هذا الحّي القديم حوالي عشرين ألف نسمة، هذا العدد يعد قليلاً بالنسبة لمساحة الحّي وموقعه، والسبب يعزى إلى أمرين، أولهما؛ خروج العديد من العائلات المسيحية العريقة من الحّي واتجاههم نحو الأحياء الجديدة المجاورة، كحّي الغساني وحّي القصور، أما الثاني فهو تحوّل أكثر بيوته الأثرية إلى فنادق ومطاعم سياحية.

لم تكن النساء تغطي وجهها "بملاية طويلة"، وإنما كانت تخرج بلباس محتشم يغطي أغلب جسمها، وحتى هذا اللباس يخالف ما كانت تخرج به السيدات المسيحيات في الأحياء الأخرى، حيث كانت تغطي وجهها، احتراماً للاعتقاد السائد، أما الأولاد فكانوا يرتدون "الشورت" الذي يصل إلى الركبة في الصيف، وكان هذا جديداً نوعاً ما، أما اللباس الديني المسيحي فيتميز "بالصاية الداخلية" و"الجبة الخارجية" ويأخذان اللون الأسود

ولا يتعدى عدد العائلات القديمة الموجودة في "حّي باب توما" الآن، ثلث السكان الحاليين؛ هذه العائلات تمثل أغلب الطوائف المسيحية الموجودة في "دمشق"، إذ إن هذا الحّي يضم في أزقته المتداخلة، اثني عشرة كنيسة، كل كنيسة منها تمثل طائفة موجودة فيه، هذه الطوائف تسكن بجوار بعضها البعض بشكل فسيفسائي قديم، لا نستطيع أن نميزها عن بعضها، فتجد مثلاً منزلاً لعائلة من الكاثوليك وبجواره منزل لعائلة من الروم، ومنزلاً بعدهما لعائلة من الأرمن إلخ...

أحد أزقة باب توما

كما يوجد عدد قليل من العائلات الإسلامية مازالت تسكن في الحّي، يعود إليها عدد من المساجد والأضرحة الدينية، فأغلب العائلات القديمة هي مسيحية من "الروم"، "الكاثوليك"، "السريان"، "اللاتين"، "الموارنة"، "والأرمن".

ويوجد في الحّي خانة واحدة كانت تسمى "قيمرية مسيحية"، واستبدلت في الآونة الأخيرة "بالقيمرية" فقط، يصل عدد العائلات الموجودة في هذه الخانة إلى ثلاثة آلاف عائلة، تحتفظ العائلات القديمة التي كانت تسكن الحّي بأول تسعمئة رقم».

المختار جابرييل شاهين

"الخوري" من عائلات العريقة في "حّي باب توما"، ومنها خرج "رئيس الوزارء" السابق "فارس بيك الخوري"، المختار "أبو رياض" ذكر عدداً من أهم عائلات الحّي بقوله: «يوجد الكثير من العائلات التي ساهمت بالحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية "لدمشق"، فمثلاً عائلة "شلهوب" من العائلات التي كان لها مشاركة في الحياة السياسية زمن الاستقلال، "جورج شلهوب" طبيب ونائب في "البرلمان السوري"، ووزير "الأشغال العامة" في تلك المرحلة، وجاء ابنه "غسان شلهوب" من بعده وتسلم "وزارة السياحة"، ولابد من إشارة إلى أن الدكتور "جورج" كان نائباً عن "الطائفة المسيحة" في "البرلمان السوري"، وبالتحديد عن طائفة "كاثوليك، إذ كان هناك نائب في البرلمان يمثل "الكاثوليك"، ونائب يمثل "الروم".

ولم تقتصر مشاركتهم في الحياة السياسية، بل شاركوا برسم الصورة الدينية للحّي، كعائلة "فرج" التي خرج منها عدد من "المطارنة"، وكذا عائلة "الطويل"».

حي باب توما لا ينام

ويضيف المختار: «ومن أهم العائلات كذلك عائلة "القدسي"، "شاهين"، "قشيشو"، "مساميري"، "لكح"، "سكاكيني"، "كساب"، "قصرملي"، "فرح"، "نعسان"، "عبسي"، "بيطار"، "مزنر"، "الصحناوي" الذي خرج منه الوزير السابق "جورج الصحناوي"، وعائلة "بولاد" الذين اشتهروا بصنع "السيوف" منذ عهد الأيوبيين وسميت الحارة التي سكنوا بها باسمهم "حارة البولاد".

كثير من هذه العائلات تخصصت بمهن معينة، "كعائلة القدسي" التي تعمل بصناعة الجوخ، والذي كانت تصدر منتجاتها إلى "المملكة المتحدة"، و"عائلة بيطار" الذين كانوا يعملون بالتجارة؛ خاصة تجارة "اليانسون"، وعائلة "مزنر" التي مازالت تملك ورشة كبيرة لإنتاج "الحرير والبروكار"، إضافة إلى المهن التي عرفت في "دمشق القديمة"، "كصناعة الموزايك" وهي "تطعيم الخشب بالصدف"، وورشات "صياغة الذهب"، وقسم من أهل الحّي عمل "بالبلاطة"، إضافة إلى الأعمال الخدمية الأخرى».

لم يتخلف لباس الرجال في "حّي باب توما" عن الأحياء المجاورة، عدا أن المختار "شاهين" أشار إلى أن لباس النساء في هذا الحّي يختلف عما تعارف عليه أهل الأحّياء المجاورة، بقوله: «لم تكن النساء تغطي وجهها "بملاية طويلة"، وإنما كانت تخرج بلباس محتشم يغطي أغلب جسمها، وحتى هذا اللباس يخالف ما كانت تخرج به السيدات المسيحيات في الأحياء الأخرى، حيث كانت تغطي وجهها، احتراماً للاعتقاد السائد، أما الأولاد فكانوا يرتدون "الشورت" الذي يصل إلى الركبة في الصيف، وكان هذا جديداً نوعاً ما، أما اللباس الديني المسيحي فيتميز "بالصاية الداخلية" و"الجبة الخارجية" ويأخذان اللون الأسود».

المختار "أبو رياض" الذي يبلغ من العمر ثلاثة وسبعين عاماً، حدثنا عن بعض المظاهر الاجتماعية التي ميزت حّي "باب توما" عن غيره من الأحياء: «جميع العائلات القديمة التي تسكن الحّي كانت تعرف بعضها البعض، فكنت ترى أثناء تجوالك في الأزقة والحارات المتقاربة أن كثير من النساء والرجال قد وضعوا الكراسي وجلسوا يتبادلون الضيافة وأطراف الحديث، ومازالت هذه العادة موجودة بشكل خفيف، وما إن يدخل رجلٌ غريب إلى الحّي حتى يعرف في الحال ويسأل عن سبب دخوله، عكس اليوم الذي تجد أن السياح والغرباء أكثر من العائلات التي تقطن الحّي، ويعد "حّي باب توما" اليوم من أكثر "أحياء دمشق" اكتظاظاً بالزوار على مدار العام ولا ينام هذا الحّي ليلاً أو نهاراً.

كما أن ازدياد عدد المقاهي والحانات التي تستقبل زوارها حتى ساعات الصباح الأولى، أثر بشكل واضح على الشكل الديني المحافظ للحّي، فأنا أذكر أن أهالي "باب توما" كانوا ينامون باكراً، ولا يمكن للأولاد أن يتأخروا في النوم أو في العودة إلى منازلهم».

احتفالات "أعياد الميلاد" و"رأس السنة الميلادية" من العادات التي حافظ عليها أهالي حّي "باب توما" على مدى قرون طويلة، ثم انتقلت مؤخراً إلى باقي أحياء "دمشق"، المختار "شاهين" وصف مظاهر الاحتفال التي زينت الليالي الجميلة في الحّي بقوله:

«في الحقيقة لم تكن مظاهر الاحتفال بالأعياد المختلفة على هذا الشكل الذي نراه اليوم، وإنما كانت بسيطة، تأخذ طابع الرمزية الدينية، فمثلاً "شجرة الميلاد" لم تكن تحمل هذه الزينة التي نراها اليوم، لأنه لم يكن هناك كهرباء أصلاً، ولكن كانت تزين ببعض الفواكه الموجودة، كحبات من "يوسف أفندي"، وأحياناً لم تكن "شجرة الميلاد" شجرة كاملة، فالبعض كان يكتفى بتزيين "غصن أخضر" على أقل تقدير، يوضع في المنزل للدلالة على العيد.

وكان الأهالي يحرصون على تناول أطباق معينة في الأعياد، بالنسبة "لعيد الميلاد" فكانوا يحضرون فروجاً محشياً بالبرغل أو الرز، ويحرصون على بدء العام الجديد بتناول وجبة باللون الأبيض "كالكبة اللبنية" لتكون هذه السنة بيضاء عليهم.

أما "ضيافة العيد" التي كانت تقدم في الحّي فكانت عبارة عن "الحلويات العربية" التي تصنع في البيوت أو التي تشترى من المحلات المعروفة، وأذكر منها "الملبس" و"القدح العنبري" وهو أحد أنواع "النبيذ"، وكان يشترى أو يصنع داخل المنازل بشكل خفيف.

وتجد اليوم أن الفرق الكشفية المنتشرة في "حّي باب توما" تشارك في المناسبات المختلفة، والأنشطة الاحتفالية والشبابية متنوعة».

المختار "كبرييل شاهين" من مواليد حّي "باب توما" جادة "العبارة"، ولد عام /1937/، بدأ عمله في حماية وطنه حيث تطوع في "الجيش العربي السوري"، وبعد إحالته إلى التقاعد، انتقل للعمل في فندق "المريديان" في دمشق، وذلك في عام /1976/ عندما كان الفندق في سنواته الأولى، وفي عام /2001/ تسلم المخترة في حّي "باب توما" من المختار "إلياس دروبي" الذي أدار شؤون المخترة في الحّي طوال ثلاثين عاماً من مكتب في منزله الخاص.

المختار "كبرييل شاهين" يحظى بمحبة وودّ العائلات العريقة في الحّي، ولديه ذكريات دافئة تجمعه مع أكثرهم، ومن مكتبه الواقع قبالة الباب الأثري في ساحة "باب توما" يعمل على تسهيل أمور أبناء حيّه، وإيصال طلباتهم للجهات المختصة.

للمختار "أبو رياض" أربعة أبناء؛ شاب وثلاث بنات أكبرهن صيدلانية، وتخرجت الباقيتين في "كلية التجارة والاقتصاد".