هي أشهر الحرائق التي مرت على مدينة "دمشق"، وقد خلدها الدمشقيون عندما سموا الحي الذي ضربته باسم "حي الحريقة"، سببها لم يكن خطأ بشرياً أو حادثاً عارضاً؛ بل حقداً أسود صبه الفرنسيون على المدينة التي وقفت في وجه قواتهم وأبت أن تكون خانعة.

إنها "حريقة حي سيدي عمود" التي وقعت بتاريخ "18/10/1925" والتي تحدث عنها المؤرخ "محمد أديب تقي الدين الحصني" في كتابه منتخبات التاريخ لدمشق بالقول: «كانت الخسارة أكبر من أن تعوض إذ لم يبق من هذه المنطقة إلا الهياكل والأطلال، ذهب أثر هذا الحريق حسب بعض التقارير الفرنسية حوالي /1500/ شخص، وعشرات البيوت والقصور والمخازن، وبلغت تكلفتها آنذاك حوالي مليون فرنك فرنسي، وتغير وجه الحي الذي كان يضم عدداً كبيراً من القصور والمنازل الفخمة لعدد من العائلات الدمشقية العريقة مثل دار مراد أفندي القوتلي؛ بزقاق العواميد والتي نزل فيها الغراندوق الروسي نيقولا عند زيارته دمشق، واحترق معها ضريح سيدي عامود، وبيت البكري والفرا والعجلاني وأغريبوز وآقبيق».

عندما بدأت الحرائق بالانتقال في البيوت تجمعت الأسرة وبدأت بالمسير بين الأزقة الضيقة وكان الدخان يتصاعد بين الدور والمنازل وكانت الوجهة المهاجرين، مررنا بالمسكية فالأموي. عندما بدا لنا الجند السنغال (المجندون الفرنسيون) تملكنا الخوف فأخذوا يؤشرون لنا نحو الطريق المؤدي إلى باب بريد فالعمارة لنقصد نحن عين كرش فالمهاجرين كان الموقف رهيباً وأتذكر بأنني كنت أهرول حاملة أختي الرضيعة مريم حينها وكان عمري يتجاوز العاشرة

ولكن ماذا حدث؟ وما سبب هذا الحريق الهائل؟، سؤال أجاب عنه التاريخ وذكره معظم المؤرخين الذي اهتموا بتاريخ "دمشق"، ومنهم المؤرخ "قتيبة الشهابي" في كتابه "دمشق.. تاريخ وصور" حيث ذكر ما يلي: «في ساعة مبكّرة من صبيحة 18 تشرين الأول 1925، دخل 400 ثائر إلى دمشق عبر منطقة الميدان تحت إمرة "حسن الخراط، ومحمود سلام وأبي عبده ديب"، كما اخترقت المدينة أيضاً مجموعة مؤلفة من الخيالة المسلّحين بزعامة "رمضان شلش" عبر منطقة الشاغور.

الحي بعد القصف

اتّجهت المجموعتان نحو قصر العظم، حيث مقر الجنرال موريس سراي المفوّض السامي الفرنسي الجديد ولقد حظيت المجموعتان بترحيب حار من التجار والسكان عند مرورهما في المدينة اشتبك الثوار فور وصولهم مع حامية قصر العظم، وعلى الرغم من سلامة الجنرال سراي غير أن الثوّار اقتحموا مقرّه، وقاموا بتحطيمه فسارع الفرنسيون بإرسال تعزيزات إلى قواتهم في المدينة القديمة وفرضوا طوقاً أمنياً عليها.

ليقتحموا سوق الحميدية؛ أحاط المقاتلون السوريون بالفرنسيين من كلتا الجهتين، وبعد دخولهم، أصبح من المستحيل عليهم التراجع. وتعذّر على الدبابات دخول الشوارع الضيقة، انسحبت القوات الفرنسية عند الساعة الرابعة من المدينة القديمة وبدأت المدافع من قلعة المزة تصب حممها على المنطقة الجنوبية من دمشق.

قصر العظم - بعد الدمار

وتفاصيل ذلك أن الجنرال سراي فقد صوابه لما فعله الثوار فأقدم على ضرب دمشق بالمدافع انتقاماً «من أهلها بحجة أنهم يدعمون الثوار»، تواصل القصف ليومين وليلتين كاملتين، مستهدفاً بصورة أساسية كافة المناطق القديمة بدءاً بالأسواق المركزية المحيطة بالجامع الأموي وحتى حي الميدان. وعملياً، فقد تعرّض كل محل من المحال الموجودة في السوق القديمة إلى الخراب إما بفعل حرائق الرشاشات أو قذائف القصف، بينما كان سوق مدحت باشا والبزورية، اللذان يقعان بالقرب من أبواب قصر العظم، هما من أكثر المناطق تعرّضاً للقصف الثقيل والشامل. أمّا سقف سوق الحميدية فقد انهار قسم منه على المتاجر الصغيرة وقدر هذا القسم بحوالي 90 متراً.

وفي اليوم الثاني، أرسل الفرنسيون إنذار إلى كافة الأجانب في المدينة كي يلتجئوا مع عائلاتهم إلى مدرسة الفرنسيسكان (دار السلام) والمشفى الفرنسي، كما طلب من السكان الفرنسيين رفع أقمشة بيضاء على سطح كل منزل مع صليب أحمر عليها لتحديد منازل السكّان الأجانب.

فرن جبران و السياس

امتلأت شوارع السوق القديم بحطام الزجاج والبضائع، فضلاً عن جثث السكان الذين لم يتمكّنوا من الهرب جرّاء القصف، وفي مناطق باب الجابية، والشاغور، والخرابة، احترق أكثر من 150 منزلاً، وفي العديد من الحالات، تعرّضت هذه المنازل للنهب من قبل القوّات الفرنسية التي عادت إلى المنطقة بعد توقّف القصف، وقد زيّنت غنائمهم من السجّاد الشرقي، والزخارف والمفروشات لاحقاً مساكن الضباط الفرنسيين الذين أعادوها معهم إلى باريس في نهاية المطاف. تضرّرت بيوت آل القوتلي، والبكري، والركابي بشكل لا يمكن إصلاحه.

كثر على عدد الإعدامات شنقا أو رميا بالرصاص ثم أرسلت فرنسا سيارتين مصفحتين إلى شارع مدحت باشا لتطلقا القذائف على أبواب المخازن المملوءة بالبضائع ثم تنزل مجموعة من العسكر لتنهب ما في داخلها.

وقدّر عدد الضحايا الدمشقيين بحوالي 1416 قتيلاً كان من بينهم 336 من النساء والأطفال، وبلغت تكاليف الخراب والدمار نحو مليون فرنك فرنسي. وفي واقع الأمر، لم يتمّ الكشف عن العدد الحقيقي للضحايا لأن ذلك لم يكن في مصلحة الفرنسيين ولا الوطنيين السوريين. فالفرنسيون قلّلوا من الرقم خشية الكشف عن حقيقة وحشيتهم أمام بقية العالم، أمّا السوريون فلم يرغبوا في أن يعرف الناس الأرقام الحقيقية، لأن الخسائر المذهلة والدمار المريع اللذين وقعا كانا بالتأكيد سيعوقان الحركة الوطنية، وعلى الرغم من الدمار الكبير الذي نجم عن القصف، إلا أنه لم يهن الشعور الوطني في سورية».

بدأ الجريق بقذيفة أولى أطلقت من مدفع بالقرب من قلعة المزة لتدمر قبة حمام الملكة لتشتعل النيران ولتمتد إلى البيوت والمتاجر المجاورة وتلتهم فرن جبران وزقاق المبلط الواقع وراء سوق الحميدية ثم زقاق سيدي عامود وبعضاً من سوق مدحت باشا، السيدة "صبحية البديوي الكيلاني" /إحدى الأطفال الناجين من هذا الحريق/ تحدثت عن حال الأهالي بالقول: «عندما بدأت الحرائق بالانتقال في البيوت تجمعت الأسرة وبدأت بالمسير بين الأزقة الضيقة وكان الدخان يتصاعد بين الدور والمنازل وكانت الوجهة المهاجرين، مررنا بالمسكية فالأموي.

عندما بدا لنا الجند السنغال (المجندون الفرنسيون) تملكنا الخوف فأخذوا يؤشرون لنا نحو الطريق المؤدي إلى باب بريد فالعمارة لنقصد نحن عين كرش فالمهاجرين كان الموقف رهيباً وأتذكر بأنني كنت أهرول حاملة أختي الرضيعة مريم حينها وكان عمري يتجاوز العاشرة».