رسمت وهي في الخامسة والثمانين من عمرها، فلقبتها إحدى الصحف بـ"مدام بيكاسو"، وسطر أحد النقاد مقالته في جريدة "المحرر" بقول "بيكاسو": «كلما ذهبت في الزمن، ذهبت في الالتباس»، لقد استوحت "عائشة عجم" رسوماتها من ذاكرتها التي حملت الكثير من القصص، الحكايا والأساطير، وذلك كان يدفعها إلى الرسم وهي واقفة لساعات طويلة تروي بلسانها وتخطّ بيدها لتترجم ذلك الموروث الحضاري الذي بداخلها.

موقع "eSyria" وللوقوف عند أهم المحطات في حياة الفنانة "عائشة عجم" والدة الفنان "عبد الرحمن مهنا" التقى عدداً من النقاد والتشكيليين الذين تحدثوا عنها وعن رشتها العفوية التي خطت ملامح مسيرتها الفنية في سن متأخرة، وعن ذلك يحدثنا الأستاذ "معد استانبولي" ناقد تشكيلي الذي تحدث عن ربة المنزل قائلاً: «كانت زوجة مثالية تعيش مع زوج متواضع الإمكانيات تزوجت في سن الخامسة عشرة من عمرها، وأنجبت تسعة أطفال بقي منهم خمسة على قيد الحياة انشأتهم على حب الفن ومعاني الجمال، رأت ذاتها المبدعة وحققت طموحاتها في الفن والحياة من خلالهم، ومن صعوبات الحياة تعلمت الكثير وضيق الحال دفعها لأن تصنع أشياء جميلة بيديها لتأسيس منزلها، ومن سحاحير الخضرة وقصاصات القماش تنسجها وتزخرفها عوضاً عن المفروشات اللازمة، وعلى الرغم من صعوبات الحياة كانت تشعر بالسعادة، وهذه الإبداعات التي تضفيها وتزين بها بيتها كانت تساعدها على نسيان صعوبة الحياة».

إنه الفن البدائي فن "البروث" هو هذا الأسلوب الذي يميز الأعمال التي أنجزها أشخاص لم تؤثر بهم الثقافة الفنية

يتابع: «عندما تفجرت طاقاتها الإبداعية وهي في سن متأخرة عادت إلى ذكريات الطفولة وصعوبة الحياة التي مرت بها تنهل منها ما علق في ذاكرتها من قصص، حكايا وأساطير تستمد منها بعض حالات الفرح القليلة التي كانت تطل عليها بين الحين والآخر في غفلة من الزمن، فجاءت رسوم هذه الفنانة فيها حس الطفولة وبراءتها، استعادت حيويتها ونشاطاها عبر رسوم تطوي من خلالها تلك السنين الطوال التي مرت على حياتها، فحين سمحت لذلك المارد الذي حبسته في داخلها طوال تلك السنين بالخروج؛ فجر أعمالاً فنية ورسوماً تحمل أصالتها وتعبر عما كان يعيش في وجدانها بعيداً عن ثقافات وتناقضات وتلوثات العصر الحديث».

ألوان الإبداع

وصف "استنبولي" أسلوب "عائشة" بكلمات قالها الفنان الفرنسي "جان دوبوفي"؛ «إنه الفن البدائي فن "البروث" هو هذا الأسلوب الذي يميز الأعمال التي أنجزها أشخاص لم تؤثر بهم الثقافة الفنية»، نعم هي أعمال بعيدة عن التقليد أو ما يؤخذ من خبرات الآخرين في اختيار المواد والإيقاع وأسلوب التعبير.

كتب الكثير عن فنها وعفويتها التشكيلية المرتبطة بذاكرة طفولية عاشت الكثير من الصعوبات، وعن هذه السمة يقول المدير السابق لمعهد ثربانتس بدمشق "كارلوس بارونا": «تنبثق الطاقة من الروح أحياناً أكثر مما تنبعث من الجسد والبرهان على لحظات تشارك فيها "عائشة عجم" الرسامة التي تحمل الستة والثمانين عاماً، والتي بدأت فقط بالرسم منذ فترة قصيرة في آواخر عمرها، فهي تفرش لزائرها حشد من قصص الخيالة، الوحوش، التنانين، الشعراء، الفرسان، المغنين، المحاربين والسيدات.. بحيث تعرض له كل هذه الحكايا التي تحتفظ بها منذ الطفولة الأولى؛ مخزنة في مخيلتها المشرقة الجلية، فأساطير ما قبل الإسلام وقصص القرآن الكريم والحكايا التي حدثها بها والدها في زمن لم يبق فيه شاهد عليها إلا ما ندر، تقفز كلها بين يديها لترسمها وتخطها على أكثر أنواع الأوراق اختلافاً دون كلل أو توقف للراحة، فمن الود أن ترى رسوماتها الفطرية، ولكن من الود أكثر أن تتأملها وهي في منزلها ترسم وتلون على طاولتها، طاولة تلميذة ابتدائية، مع ألوانها ودفاترها».

خلال الرسم

بدأت بالرسم من ألوانها العادية التي لا تشبه ألوان الآخرين من الفنانين، وعلى صفحات ورقية جاهزة كانت أولى معارضها في "دمشق" العاصمة التي احتضنت حبها وعشقها وولهها بالألوان، وعن اكتشاف ولدها لموهبتها يقول الشاعر "محمد خالد الخضر": «عندما اكتشف موهبتها الزاخرة ولدها الفنان "عبد الرحمن مهنا" انفتح ضوء موهبتها على عالم جديد، فأدركنا أنها سليل موهبة تختزن شموس وأقمار "حلب" موطن والديها، حينها سالت أصابعها بمواجع التاريخ منذ أن أطلق قيّمها "عنترة العبسي" إلى أن طرد المناضلون الغزاة والاستعمار الجديد إلى يومنا هذا، من هذا وذاك أدركت بفطرتها أن الفن رسالة اجتماعية وإنسانية سامية، تثبت أن لوجودها معنى وبسرعة فائقة خلال أيام انطلاقتها الأولى وهي في عامها الخامس والثمانين قدمت مجموعة أحلام مزهرة، تحولت فجأة إلى عالم فني قائم له خصوصية وذاتية رغم كل المعوقات، فها هي اليوم كونت شخصيتها الأصيلة المتجذرة من تراث عريق ليبقى تراثنا على وجه التاريخ».

رئيس جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، رئيس رابطة نقاد الفن في "العراق" "نوري الراوي" عنها قال: «ثمة إيقاع خفي بين الرغبة اللاعجة في التعبير عن دواخل النفس، وبين رؤية أخرى تفصح عن تعلقها بالتعبير عن مراءٍ واقعية لمشاهد الحياة المنظورة، تنطلق دوافع الفطرة الخالصة النقاء لتلبية تلك الرغبة عبر تأليفات تشكيلية مفعمة بالرؤى والألوان، وهكذا تتحرك يد الفنان الفطري طوع إيحاء إيمائي لتعبر عن الهواجس الخفية للنفس، من خلال الصور عبر لغة تشكيلية ذات خصوصية تتسم بالبراءة».

من الأساطير

يتابع: «مثلما تتميز بالعفوية والتفرد، باعتبارها لغة الينابيع الصافية للرؤية الإنسانية، فيما تلتقي ظواهر هذه اللغة الجميلة بفن الشعوب البدائية تارة، وبفن الأطفال تارة أخرى، لأنها تخضع لما يشبه النمذجة الجوانية، وهي ذات القوانين التي تمتلكها الفنانة الفطرية "عائشة عجم مهنا" وتطبقها على مشاهد عالمها الطريف الذي تتوهج فيه الألوان حتى درجاتها القصوى كما تتحد فيه صور الحياة وفق مسرحةٍ تلقائية بقصص الخيال الشعبي، حيث يتجاسد الحياتي المنظور بالخيالي المتصور، وتنتهي الرؤية بما يمكن أن يؤنسن فيه الحيوان والنبات ليصبحا عالماً كلياً لا تعارض في مشاهده ولا تقاطعات. ثمة واشجة تجمع ما بين هذا العالم الذي أبدعته الفنانة السورية ابنة التسعين، وبين مثيله في الفن الفطري التونسي».

رحلت تاركة وراءها لوحات تتحدث عن ذاكرة حملت الكثير من الحب والأحلام والطفولة، في رحيلها يقول الناقد التشكيلي "أديب مخزوم": «بدأت الرسم في الخامسة والثمانين من عمرها، أي دخلت دائرة الخطوط والألوان في مرحلة متأخرة جداً، وطرحت في لوحاتها الأجواء التشكيلية الأكثر تلقائية وعفوية من خلال التأكيد على ملامح الانحياز نحو العناصر الزخرفية والشعبية والتراثية عبر إطلالات عناصر إنسانية وحيوانية ونباتية جسدت من خلالها تداعيات القصص الشعبية المستمدة من التراث الحضاري القديم، هكذا زاولت الرسم الفطري بعد أن خمرت حبها للفن سنوات طويلة جداً، وعملت على إيجاد ما هو خارج عن المألوف في حياتنا الفنية حين عادت لمزاولة التشكيل في الخامسة والثمانين من عمرها».

يتابع "مخزوم" ليتحدث عن أهم إنجزاتها ومعارضها الفنية الفردية والجماعية: «شاركت خلال السنوات القليلة الماضية في ملتقيات فنية كملتقى "خان الحرير"، وقامت بالرسم أمام الجمهور، الشيء الذي أكد بطريقة لا تقبل الجدل قدرتها على التشكيل بدعوى الإثبات الفعلي القاطع لكل الشكوك، هذا إلى جانب المعارض الفردية التي أقامتها، وكان آخرها في مركز ثقافي "أبو رمانة"، كما شاركت في معارض جماعية، وحازت عضوية شرف من نقابة الفنون الجميلة، إلى جانب المعارض الجماعية التي أقيمت كتحية لها وبمشاركة مجموعة من الفنانين، نأمل أن يتم تكريمها بمعرض يتضمن مجموعة من لوحاتها، فألوانها المتشحة بالسواد لا تغسلها إلا الأحلام الباحثة عن مزيد من البياض الآتي بعد كل سواد».

يذكر أن أول ظهور للفنانة "عائشة عجم مهنا" على الساحة الفنية التشكيلية كان في شهر أيار 2000 خلال سوق الأحد للفنون الذي أقيم في فندق "شيراتون" دمشق؛ حيث كانت ترسم في الهواء الطلق بشكل مباشر وباسترسال وثقة أدهشت الجمهور الذي أخذ يراقب عملها عن كثب مبدياً إعجابه ودعمه، وسرعان ما أقامت معرضها الأول في الثالث عشر من شباط عام 2001 في المركز الثقافي الإسباني بدمشق الذي رشحها في العام التالي من خلال معهد "ثربانتس" للمشاركة في مسابقة "فكر مع يديك"، وجاء معرضها الثاني في شهر أيار عام 2001 في صالة نقابة الفنون الجميلة بحلب، كما أنها شاركت في مهرجان "خان الحرير" بجناح خاص أقيم لها مع ورشة عمل حيث مارست الرسم بحرية وانطلاق أمام الجمهور، فنالت شهادة تقدير من المهرجان، وحصلت على عضوية اتحاد الفنانين التشكيليين السوريين، فغادرت رسومها وألوانها بعد ست سنوات من بداية مسيرتها الفنية.