"صحيح أن دمشق تزهو بوردها الشامي وترش على القادمين إليها، حباً،عطر ياسمينها، وتسقي العطاش إليها من ينابيع مياهها العذبة لكن لدمشق سيفاً ينتسب إليها ،سرعان ما تشهره في وجه الطامعين بها ، في وجه الذين يريدون بها سوءاً ،هذه هي دمشق وهذا هو سيفها الشهير" ، هكذا قال السيد الرئيس بشار الأسد في افتتاح مهرجان دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008

إنه السيف الدمشقي الذي شّكل عبر القرون الماضية لغزاً مستعصياً، إذ رويت عنه الأساطير نسجت حوله الحكايات حتى قيل إن حده كان من المضاء بحيث يقطع نسيج العنكبوت الطائف في الهواء ، وكان من القسوة بحيث يقسم رمحاً من الحديد إلى نصفين كما لو كان من القصب وكان من المرونة بحيث يمكن ثنيه بزاوية قائمة يعود بعدها إلى استقامته الأصلية.

ومن أشهر الأساطير التي رويت أن الدمشقيين ورثوا السيوف عن الإله " حدد " إله الصاعقة حيث كانوا ينتظرون أن يشق البرق رحم الأرض ويزرع منها شيئاً من وميضه محدثاً فيها عروقاً معدنية كبيرة يأخذوها ويلقوها في النار ويطرقوها ثم يضعوها في خليط من الماء والزيت ليصنعوا منها تلك السيوف السحرية.

شهرة وصلت إلى حد تبادلها كهدايا

وبلغت السيوف الدمشقية حداً من الشهرة جعل الملوك يتبادلونها هدايا حسب ما ذكر (المقريزي) كما فعل السلطان المملوكي (الظاهر بيبرس) عام/1263 م / عندما أرسل مجموعة من السيوف الدمشقية كهدية للأمير المغولي ( بركة خان ) في كيتشباك جنوبي روسيا.

تؤكد الموسوعة البريطانية أن السيف الدمشقي الذي يتألف من أربعة أقسام هي (النصل، المقنص، الغمد، الحمائل) تميز بفولاذه الصلب المرن، كما تحلّى بزخارفه المتموجة التي كانت تعرف بـ " الجوهر " أو " الفرند " خصوصاً في حدّة القطع .

تصنيع يتطلب خبرة وحرارة عالية

وتعترف الموسوعة أيضاً بأن الفولاذ الدمشقي كان من أشهر المعادن في عصر ما قبل النهضة الصناعية في أوروبا ، وهذا ما يؤكده أيضا نور الدين الذي يمتلك خبرة واسعة في هذه الصناعة ويتوافد إلى محله المختصون والخبراء من الخارج ، إذ يقول " كان تصنيع الفولاذ الدمشقي يشمل عملية تفحيم أو كربنة بأسلوب مجهول تقريباً ، حيث يحمّى نوع من الحديد المطاوع إلى درجة الحرارة الحمراء بتماس مع مواد كربونية شبيهة بالفحم في أوعية مغلقة فيكون الناتج خلطة من الحديد تحتوي على نسبة 1.8 بالمئة من الفحم يتعرض بعدها للتسقية قبل أن يتم تطريقها إلى قضبان لتحول بعد ذلك إلى سيوف ".

والتسقية كما يشرحها نور الدين فهي عملية يقصد بها " نشوفة " الصلب أي صلابته بهدف جعل الصلب " الفولاذ " أنشف حتى لا يتآكل بسرعة .

ويضيف نور الدين أن من السوائل التي يغمرها الصلب لتبريده أثناء التسقية (الزئبق والماء البارد المذاب فيه قليل من ملح الطعام أو الزيت مثل زيت الذرة أو زيت القطن أو الماء الساخن) وهذه الطريقة ، أي التسقية ، هي التي جعلت من السيف الدمشقي لغزاً حضارياً حيّر علماء أفضل صانعي السيوف الأوروبيين صنع مثله .

خبرة نور الدين لا تقتصر على الصناعة فحسب بل تمتد إلى المعرفة التاريخية بالسيف الدمشقي فيقول " استمرت التجارب والاختبارات الفاشلة حتى تمكن العالمان الأمريكيان/ أوليغ شيربي وهيفري وادسيورث/ من التوصل إلى معرفة سر هذا السيف بعد ست سنوات في المختبرات وجاء نجاحهما في فك اللغز بعد

تقليبهما المعدن المسخن وهو في حرارة / 2050/ فهرنهايت بشكل مستمر ثم قاما بخفض حرارته إلى درجة /1200/ فهرنهايت وحافظا على تلك الحرارة خلال عملية تشكيله في عملية تشبه عملية صنع الخزف الذي يعجن وهو يلف بصورة مستمرة ".

ويرى نور الدين " بالرغم من أن مركب كربيد الحديد يتشكل في مثل هذه الحالة إلا أنه لا يعطي فرصة الاستقرار في صورته الهشة إذ أن استمرار اللف يفرض عليه البقاء ضمن الحدود الضيقة التي تسمح له فقط بملء الحبيبات الفارغة وبذلك تتشكل المصنعات الفولاذية من معدن شديد الليونة وهو في حالة السخونة والصلابة الشديدة بعد تبريده" .

نور الدين .. سرها من سر دمشق

ورغم نجاح هذه المحاولة إلا أنها بقيت ناقصة ، والسبب كما يؤكد نور الدين هو ( لأن السيوف الدمشقية كما دمشق لا تبوح بكل أسرارها ) إذ أن ما توصل إليه العالمان كان بواسطة الآلة أما السيف الدمشقي الأصلي فكان يصنع دائماً بيد الحداد الدمشقي وبالطرق العادية.

واليوم لا تزال أياد فنية خبيرة في دمشق القديمة تصنع السيوف الدمشقية الثمينة إلا أن النصل الأصلي القاطع الذي اشتهر عبر التاريخ لم يعد ينتج وبقيت الأنصال الدمشقية حبيسة أشهر خزائن النفائس والمجوهرات النادرة في أضخم متاحف العالم .

ساحة الأمويين هي الشاهد

ولما للسيف الدمشقي من مكانة عند السوريين رفع في ساحة الأمويين وسط دمشق نصب له كرمز لقوة سورية ومنعتها وهو ينتصب حاملاً إرثها الحضاري ومختزلاً تاريخاً من العراقة والأصالة والانجازات.