ثمة أشياء لا يقدر المرء على تخيل "دمشق" دونها، وتفقد بزوالها معنى فتنتها وبهائها، ولا يجرؤ الخيال بقبول فكرة زوالها من جنباتها وأزقتها وعلى رأسها مقهى "النوفرة الدمشقي".

يجلس كل يوم الحكواتي "أبو شادي" على كرسي عتيق في مقهى النوفرة القديم ليمارس ما يعتبره هواية فيروي على رواد المقهى قصص "عنترة وعبلة والظاهر بيبرس" وحكايات تواردها الحكواتية منذ مئات السنين، ويعود نشاط الحكواتي في شهر رمضان إلى الواجهة ليتنافس مع الدراما والأعمال التلفزيونية في شد انتباه الناس، في حالة من التعايش بين فنه والبديل العصري له وهو الدراما التلفزيونية، ولم يبق في "دمشق" العاصمة العربية العريقة سوى "رشيد الحلاق" الملقب بـ"أبو شادي" الذي يمارس هذه المهنة منذ أكثر من /16/ عاما، يقدم كل يوم حكاياته في جوار "الجامع الأموي". يعتبر مقهى "النوفرة" في وسط "دمشق القديمة" بعمره الذي تجاوز الـ 200 سنة من أقدم المقاهي الدمشقية المنتشرة بشوارعها وأسواقها الرئيسية والشعبية المختلفة، ويقع مقهى "النوفرة" خلف "الجامع الأموي" مباشرة في نهاية الدرج من الناحية الجنوبية وإطلالته على الجامع، أكسبته شهرة كما أن ساحته المرصوفة بالأحجار البازلتية السوداء، أكسبته رونقا ومنظرا خاصا.

أشعر بسعادة بالغة عند ارتياد المقهى ومعانقة النرجيلة، التي هي طبعاً مضرة بالصحة، ولكنها جزء من هذا المكان الذي أعشق

لكي تصل إلى "مقهى النوفرة" يجب أن تخترق "سوق الحميدية" لتشاهد الدكاكين المنتشرة فيه وما تحويه من معروضات متنوعة من ملابس ومفروشات ومحلات العطارة والحلوى، وما أن ينهكك السير بالسوق المسقوف وتنتهي من التسوق تجد في أسفل الدرج "مقهى النوفرة" لتستريح به.

ستتعرف على المقهى من الزحام الذي يشهده، ومن عتباته الثلاث وشرفاته التي يشتهر بها، وتتسع الصالة الداخلية فيه إلى /24/ طاولة يجلس على كل منها أربعة أشخاص، أما الصالة الخارجية فتتسع لـ/12/ طاولة يجلس على كل منها شخصان، ويفضل الزوار الجلوس عليها، للاستمتاع بمشاهدة العابرين إلى "المسجد الأموي"، والمتسوقين والسياح.

يقول أمين الصندوق في المقهى إن تسمية "النوفرة" تعود إلى "النافورة" الموجودة أمامه والتي كان يتراوح ارتفاعها بين 4 إلى 5 أمتار، مشيراً إلى أن النافورة التي بنيت حولها بركة رخامية ضعف ماؤها وبقي اسم المقهى الذي يملكه "ذيب" و"أحمد الرباط".

وحول نظام تفييش الطلبات، أشار "أبو حسين" إلى أن: «"البيع بواسطة الفيش" ما زال مستخدما بالمقهى حيث توضع فيشة لكل طلب يقدم للزبائن في صندوق خاص، وكل طلب له لون فيشة معين، فأرجيلة العجمي فيشتها خضراء، والمعسل فيشته حمراء ويخصص لمن أحضر تمباكه الخاص به فيشة بيضاء، أما المشروبات الساخنة من "قهوة وشاي وزهورات" ففيشتها صفراء، والمشروبات الباردة فيشتها زرقاء، لافتا إلى أنه في نهاية اليوم يتم عد الفيش مع "الشغيلة" الذين يحصلون على نسبة من البيع كأجر لهم».

من ناحية أخرى، قال "رضا الصالح" /73 عاما/ أنه يواظب على الجلوس مقهى النوفرة يوميا في تمام الساعة السابعة والربع مساء منذ عشرين عاماً ليستمع للحكايات التقليدية القديمة التي يلقيها الحكواتي الذي يعتلي الكرسي التي تتصدر وسط القاعة المغلقة للمقهى حاملاً بيده سيفاً يلوح به خلال سرده لمجريات الرواية أو الحكاية.

ويتمتع الزائر "لمقهى النوفرة" بمشاهدة اللوحات الفنية التي تزين مدخله وجدرانه مما تحول إلى معرض للوحات الفنانين الذين يحضرون للمقهى لعرض لوحاتهم وإبداعاتهم الفنية.

لدى دخول المقهى تجد العديد من رواده الجدد والقدامى يجلسون منتظرين ما سيروى لهم من أشياء لم يُسمع بها لا في التاريخ ولا عبر التلفاز ولا حتى في الكتب وهذا ما أكده أحد رواد المقهى القدامى باسم "عريبي" الملقب "أبو فياض"، حيث قال لنا أن ثمة أشياء لا يقدر المرء على تخيل "دمشق" دونها، وتفقد بزوالها معنى فتنتها وبهائها.

ولا يجرؤ الخيال بقبول فكرة زوال مقاهيها من جنباتها وأزقتها وعلى رأسها "مقهى النوفرة" الدمشقي.

يعود المقهى في بنائه إلى ما قبل قرنين ونصف من السنوات، ورواده حتى وقت قريب كانوا من الرجال كبار السن، غير أن تردد المجموعات السياحية من رجال ونساء، وشباب وشابات، وارتياحهم لأجواء "دمشق القديمة" ونمط عمارتها، غيّر من أجواء المقهى، وصار بإمكان الصبايا والفتيان من أبناء البلد الجلوس فيه وتناول المشروبات وتدخين النراجيل.

ويعتبر ارتياد الفتاة للمقهى أبلغ تغيير عليه، حيث تجلس فيه حتى ساعات متأخرة من الليل تشرب الشاي وتدخن النرجيلة.

تقول "سلوى الصايغ"، وهي خريجة جامعية: «أشعر بسعادة بالغة عند ارتياد المقهى ومعانقة النرجيلة، التي هي طبعاً مضرة بالصحة، ولكنها جزء من هذا المكان الذي أعشق»

يتفاخر القاهريون بأن لديهم "مقهى الفيشاوي" لكن "الدمشقيين" يزيدون بأن ما في "مقهى النوفرة" في مدينتهم مازال قائما ولم يندثر وبقي على حاله وأصبح قبلة من يريد تنسم عبق الماضي وينشد استماع الملاحم البطولية التي سطرتها الشخصيات التاريخية.

ولا يوجد في كتب التاريخ المعاصر والمراجع ما يفيد تحديدا عن تاريخ بناء "مقهى النوفرة" القائمة في الحي الدمشقي القديم لكن عرفه الناس في مطلع العشرينيات وأصبح بحكم موقعه التاريخي وبنائه التراثي القديم "أشهر مقهى في دمشق" وهذا الموضوع بالذات سيكون له بحث آخر على صفحات موقعنا.