إنه أحد الرموز الخالدة التي تَشِمُ "دمشق" بالأصالة والعراقة، وقلّما يرد ذكر "لدمشق" ولا يرد ذكر "للمسجد الأموي" الكبير فيها، وكلما أتى ذكر "للجامع الأموي"، لا بد أن يرتبط بذكر لمدينة "دمشق" العريقة، بتاريخها ومعالمها وآثارها.

"الجامع الأموي" أو "المسجد الأموي" أو مسجد "بني أمية" مسجد في دمشق، سورية وهو من روائع الفن المعماري الإسلامي، يقع في قلب المدينة القديمة وله تاريخ حافل في جميع العهود والحضارات كان في العهد القديم سوقاً، ثم تحول في العهد "الروماني" إلى معبد أُنشئ في القرن الأول الميلادي ثم تحول مع الزمن إلى كنيسة.

وبها مسجد ليس في الإسلام أعمر ولا أكبر بقعة منه، وأما الجدار والقبّة فمن بناء الصابئين عبدة الأوثان، فقتل في ذلك الزمان "يحيى بن زكريا" عليهما السلام ونصب رأسه على باب هذا المسجد الذي سمي بباب جيرون

فقد كانت الصابئة "الكلدان"، وهم من أهل "حران" في العصور القديمة يعبدون الكواكب، وقد بنوا لمدينة "دمشق" سوراً ضخماً، وجعلوا فيه سبعة أبواب، وصوروا على كل باب من أبوابها السبعة صوراً ورسوماً للكواكب، تبرّكاً.

ولم يبقَ قائماً حتى الآن غير رسمٍ لكوكب "زحل"، على الباب المسمى "باب كيسان"، بينما اندثرت آثار الرسوم عن الأبواب الأخرى.

وقد بنى "اليونانيون" وهم من "الكلدانيين" أيضاً، معبداً يمارسون فيه طقوس عبادتهم للكواكب، كان في موضع "المسجد الأموي" الآن، وكانت قبلتهم إلى الشمال، حيث القطب الشمالي.

وفيه هيكل الإله "حدد" الآرامي، وهو إله العاصفة والمطر والخصب، وكان يعبد في "دمشق"، ولم يبق من آثار هذا المعبد إلا لوح من الحجر البازلتي الأسود، نحتت عليه صورة لأسد مجنح وهو محفوظ حتى الآن في "المتحف الوطني بدمشق"، وقد اتخذ "اليونانيون" المكان معبداً في العصر "الهلنستي"، وعند غزوة الرومان الشهيرة "لدمشق" استخدموا المعبد كمعبد للإله "جوبيتر"، وفي عهد القيصر "كيودوس" تهدّم المعبد، فأقام في موقعه كنيسة "مار يوحنا المعمدان"..

لقد ورد الذكر الأول لأصل "الجامع الأموي" على لسان المؤرخ العربي "أبو زيد أحمد بن سهل البلخي" الذي قال: «وبها مسجد ليس في الإسلام أعمر ولا أكبر بقعة منه، وأما الجدار والقبّة فمن بناء الصابئين عبدة الأوثان، فقتل في ذلك الزمان "يحيى بن زكريا" عليهما السلام ونصب رأسه على باب هذا المسجد الذي سمي بباب جيرون». كما ورد ذكر موسّع "للمسجد الأموي" في كتاب "ابن عساكر".

وقد اكتشف الخبراء في وقتنا، هذا تحت المئذنة الغربية، قناة لتصريف المياه تحيط بالجامع، كما اكتشفوا أيضاً قواعد أعمدة مدخل هيكل "جوبتير" تمتد من مدخل سوق "المسكية" الحالي، ولا تزال بعض الأعمدة الأثرية القديمة قائمة، تقع على مستوى الأرض المرصوفة بالأحجار البازلتية.

وعندما حرر المسلمون "دمشق" من الحكم البيزنطي، اتخذوا من منطقة "الجامع الأموي"، ومن الزاوية الجنوبية الشرقية منه، قريباً من الكنيسة التي كانت قائمة وقتذاك، مسجداً ليقيموا فيه الشعائر الدينية.

وإن دل هذا على شيء، فقد دام الجوار بين الكنيسة والمسجد ما يقارب الـ 70 عاماً فإنما يدل على ذلك التعايش الحميم بين الأديان، على قاعدة أن الدين لله والوطن للجميع، مكرسين بذلك حقيقة أن بلاد الشام كانت على مر العصور ساحة حرّة طيبة لكافة الأديان، واللافت أن المسيحيين والمسلمين المتجاورين بالكنيسة والمسجد وهم يتقاسمون المكان، كانوا يدخلون إلى مناسكهم من باب واحد.

في عهد الخليفة الأموي "الوليد بن عبد الملك"، وهو من أشهر خلفاء "بني أمية"، أجرى اتفاقاً هو "عين العدل"، إذ تم الاتفاق بينه وبين القساوسة على أن يضم كنيسة "مار يوحنا المعمدان" إلى المسجد، لقاء أن يقيموا ويحافظ المسلمون على أربع كنائس أكثرها في منطقة "الباب الشرقي وباب توما".

وبدأ الخليفة "الوليد بن عبد الملك" ببناء وتوسيع المسجد في العام 586 هـ واستغرقت عملية البناء عشر سنوات، شارك في العمل 12 ألف عامل ومختص وفني، وقد قيل إن التكلفة بلغت في حينه ستة ملايين دينار، أي ما يعادل خراج الدولة سبع سنوات، لينتهي العمل في العام 596 هـ ويخرج بصورته البهيّة، مزيّناً بأجمل اللوحات الفسيفسائية التي تعبّر عن الفن الإسلامي في تلك المرحلة، وأكثر من مئة نافذة مزيّنة بالزجاج المعشّق، والخشب المزخرف، والمنبر، والمحراب.

أما الفرش فقد كان من أفخر السجاد الإيراني الناعم والوثير، وفيه أيضاً روعة بناء المآذن الثلاث الشهيرة، "مئذنة العروس، ومئذنة عين الشرق أو مئذنة عيسى، ومئذنة قاتيباي"، وبحرات الماء، والقباب الثلاث "قبّة الخزنة" وقد بنيت في "العصر العباسي"، وكانت بيت مال المسلمين، مرفوعة على أعمدة غاية في الروعة والجمال، "وقبة الساعات" أو "قبة زين العابدين"، "وقبّة البركة"، وتؤكد الروايات التاريخية أن "رأس النبي يحيى" مدفون تحت عامود يبدو مختلفاً بالشكل عن بقية أعمدة المسجد.

وبالقرب من صحن المسجد الخارجي، يوجد "مقام رأس الحسين"، أو "قبّة يزيد" كما يطلق عليها البعض، حيث مدفن رأس "الحسين" عليه السلام.

وكانت تقام فيه حلقات العلم والتدريس، وكان الخليفة يستقبل في رحاب الجامع ولاة المقاطعات، ورسل الدول الأخرى، وكان مكاناً للتقاضي بين الناس، ومن المشهور أن الإمام "الغزالي" درّس واعتكف في المسجد الأموي لكتابة بعض كتبه الشهيرة.

وللمسجد أربعة أبواب تفتح على جهات مدينة "دمشق" الأربع وهم على التوالي: الباب الشرقي وسمي "بباب جيرون" ويطلق عليه الآن باب "النوفرة" والباب الغربي، "باب بريد" والباب الجنوبي "باب الزيادة". والباب الشمالي "باب الكلاسة".

بحيث يمكن دخول المسجد من كل الجهات، ويقوم المسجد على مساحة من الأرض تقدّر بـ 15229 متراً مربعاً.

وقد جرت تحسينات وإضافات على روعة هندسة "المسجد الأموي" عبر العصور اللاحقة، تأكيداً على تمسّك المسلمين بهذا الصرح الهندسي الرائع، والمعنى الكبير الذي يدلّ عليه.

وعن بناء الجامع "الأموي": فلم يكن من السهل أن يبقى المسلمون في عاصمتهم "دمشق" التي أصبحت تحكم أوسع دولة في تاريخ الاسلام، وأن يكون مسجدهم مؤقتاً في "دمشق" وباشر "الأمويون" في توسيع وتكملة بناء "الجامع الكبير" في "دمشق" وجعله جامعاً يليق بعاصمة دولتهم "الدولة الأموية" فقاموا بتوسعة باحاته وتجميلة بالنقوش والفسيفساء والزخارف وزين بأفخم وأجمل الفوانيس وغيرها، وكذلك فعلوا في مدن أخرى مثل "المدينة المنورة" و"حلب" و"القدس".

فقام "عبد الملك بن مروان" بإنشاء "مسجد قبة الصخرة" هناك، في المكان الذي صلى فيه"عمر بن الخطاب" عندما جاء إلى "القدس" واهتم "الأمويون" بالعمارة.

وباشر ببناء "الجامع الأموي" الكبير "بدمشق"، بعد أن اتفق مع أصحاب الكنيسة- الهيكل على أن يقدم لهم بديلها، وهكذا استطاع البناؤون الإفادة من كميات هائلة من حجارة المعبد المتراكمة، ومن أعمدته الرخامية وتيجانه لإقامة جامع ضخم يليق بعضمة الدولة الإسلامية، ويعتمد على التخطيط الذي وضعه الرسول صلى الله عليه و سلم (عند بنائه لمسجده الأول في المدينة المنورة)، وكان هذا المخطط يقوم على تقسيم المسجد إلى بيت الصلاة وإلى فناء مفتوح. لقد استبقى "الوليد" الجزء السفلي من جدار القبلة أعاد الجدران الخارجية والأبواب، وأنشأ حرم المسجد مسقوفاً مع القبة والقناطر وصفوف الاعمدة.

وأنشأ أروقة تحيط صحن الجامع وأقام في أركان الجامع الأربعة صومعة ضخمة، ولكن زلزالاً لاحقاً أتى على المنارتين الشماليتين، فاستعيض عنها بمنارة في وسط الجدار الشمالي، وأصبح للمسجد ثلاث منارات اثنتان في طرفي الجدار الجنوبي، وواحدة في منتصف الجدار الشمالي وتسمى مئذنة "العروس" إن هذه الصوامع المربعة هي أصل المآذن التي انتقلت من "دمشق" إلى شمالي "أفريقيا والأندلس"، نرى تأثيرها واضحاً على مآذن "القيروان والكتبية وحسان وإشبيلية" وغيرها.

لقد تعرّض "المسجد الأموي" إلى عدد من الكوارث الطبيعية، زلازل، وحرائق طبيعية ومفتعلة، ولكن وفي كل مصاب كانت تعاد عمليات الترميم والإصلاح على أحسن وجه.

إن "المسجد الأموي" صرح تاريخي، ما زال شاهداً على عظمة أجدادنا، وعظمة عمالنا وفنانينا ومهندسينا الذين اشتغلوا بحرفية عالية لإقامة صرح، أصبح موئلاً للزوار من كل حدب وصوب.

وفي عام 1414هـ / 1994م أمر الرئيس الراحل "حافظ الأسد" بإجراء ترميمات وتحسينات أساسية للمسجد للحفاظ على طرازه الأصيل واللوحات والنقوش الرائعة، وتم الكشف من احدى الجهات خارج جدران الجامع عن أثار رومانية غاية في الأهمية للمعابد قبل قيام الجامع وتم ترميمها والعناية بها تم إعادة افتتاح المسجد من قبل الرئيس "حافظ الأسد" بعدما تم مسح جديد وتسجيل جميع الأثار الإسلامية والتاريخية القديمة وتوثيقها.

وما زال "المسجد الأموي" إلى عصرنا هذا قبلة المسلمين، والمكان المختار لإقامة الشعائر الإسلامية، وسيبقى مفخرة الآثار التي تركها سلفنا الصالح.