تعد المدرسة "العمرية" الواقعة في حي "الصالحية" من أعظم المدارس في "دمشق" وأولها في "الصالحية" حسب ما يذكره لنا الباحثون في هذا المجال.

موقع "eSyria" بتاريخ 10/9/2010 التقى الباحث التاريخي "محمد محي الدين" ليحدثنا عن "المدرسة العمرية"، عن موقعها وأهميتها يقول: «يعد حي "الصالحية" الشهير بدمشق من أغنى أحياء "دمشق" بالمواقع والأماكن الأثرية، خاصة تلك التي تعود للقرون الوسطى حيث كان هذا الحي يستقطب كل الفعاليات التجارية، العلمية والدينية في "دمشق"، فكان عبارة عن عاصمة داخل عاصمة أولاه الأيوبيون والمماليك أهمية كبيرة، في هذا الحي تقع "المدرسة العمرية" الأثرية التي تعتبر بحق أول جامعة إسلامية في بلاد الشام بسبب موقعها العلمي الفريد، والعلماء الذين تخرجوا منها والنظام المدرسي الذي كان متبعاً بها، حيث كان يتم تأمين السكن والطعام للطلاب الدارسين فيها».

هذه المدرسة عظيمة، ولم يكن في بلاد الإسلام أعظم منها

يتابع: «تذكر المصادر التاريخية أن المدرسة "العمرية" أعظم مدرسة من مدارس "دمشق" القديمة، بناها في منطقة "الصالحية" في أواخر القرن السادس الهجري الشيخ "أبو عمر" "محمد بن الشيخ أحمد بن قدامة" من ذرية "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه، حيث هاجر الشيخ "أحمد بن قدامة" من "جماعيل"، "جماعين" حالياً "فلسطين" إلى "دمشق" مع ولديّه الشيخ "محمد أبو عمر" والشيخ "عبد الله موفق الدين" وغيرهما من أفراد أسرة بني قدامة في سنة 551هـ بعد استيلاء الصليبيين على "فلسطين"، فسكنوا أولاً في مسجد "أبي صالح مفلح الحنبلي" خارج سور دمشق بين "الباب الشرقي" و"باب توما"، ثم انتقلوا إلى سفح "قاسيون" فبنوا فيها دوراً لهم، لم يكن الجبل مسكوناً آنذاك».

عملية ترميم للموقع

باشر الشيخ "أبو عمر" ببناء المدرسة "العمرية" في مكان قيل أنه كان مقصبة على ضفة نهر "يزيد"، عنها يقول "محي الدين": «بنى أولاً مخزناً كبيراً لحفظ الماء، ثم عقد فوقه وبنى بعد ذلك مدرسة صغيرة لطلاب العلم وعشر حجرات لسكن عائلته، ثم توفرت له المساعدات المالية فوسع المدرسة، وبنى آخرون أبنية أخرى أضيفت إليها حتى وصل عدد حجراتها إلى 360 حجرة، وأصبح بناؤها يتألف من ثلاث طبقات، وكثرت أوقاف المدرسة وتوفرت لها الواردات الكبيرة مما أمكن الإنفاق منها على طلاب العلم بسخاء وعلى أنواع الخير والبر».

عن المدرسة وهي في أوج عظمتها يقول "الحافظ بن يوسف بن عبد الهادي": «هذه المدرسة عظيمة، ولم يكن في بلاد الإسلام أعظم منها».

المدرسة العمرية

وعن وقفها قال: «إنه لا يمكن حصره».

يتابع "محي الدين": «كما ذكر المؤرخون أن طلابها كانوا نحو خمسمئة، لهم حرمة تامة في البلد بحيث أن من دخل المدرسة آمن ولو كان طالبه نائب الشام».

هنا يتحدث عنها "ابن طولون" في القلائد الجوهرية فيقول: «هذه المدرسة لا تزال تحتفظ بهيئتها في الطابق الأرضي، وقد تهدمت بقية الطوابق التي فيها، وتعتبر هذه المدرسة أعظم مدرسة في دمشق، وأقدم مدرسة في "الصالحية"، وأول بناية أنشئت فيها».

ويذكر لنا الأستاذ الباحث "محمد محي الدين": «كذلك زار "المدرسة العمرية" الباحثان الألمانيان "فترنجر" و"فلتزنجر" في أواخر القرن التاسع عشر، ووصفاها في كتابهما "دمشق المدينة الإسلامية" المطبوع سنة 1917م، وذكرا أن سقوف سطوحها من الخشب اللامع المدهون الجميل على طراز النقش في القرنين السابع عشر والثامن عشر».

أما الباحث المؤرخ "محمد أحمد دهمان" فقد كتب بحثاً مفصلاً قيّماً عن هذه المدرسة التي زارها مع الرحالة "الشيخ خليل المقدسي" حيث خاطبها قائلاً: «أيتها المدرسة العظيمة! كم أخرجت من رجال عظام وكم ثقفت من أفهام، وكم صقلت من عقول، فإن الإنكليز يفخرون بجامعة "أكسفورد" فأنت فخرنا، وإن كان الألمان يفخرون بـ"ميونيخ" فأنت فخرنا، وإن كان الفرنسيون يفخرون بجامعة السوربون فأنت فخرنا».

كما كتب عنها المرحوم الدكتور "أسعد طلس" بحثاً مفصلاً ختمه بقوله: «ظلت العمرية قرابة خمسة قرون نبراساً يستضيء به الشاميون، ولئن بنيت للحنابلة، فإنها ما لبثت طويلاً حتى أصبحت للمسلمين عامة تدرس فيها المذاهب الأربعة، وعلوم الحديث، والقراءات، اللغة، الأدب والتاريخ».

يتابع السيد "محي الدين" حديثه فيقول: «كانت هذه المدرسة في أول إنشائها وقفاً على العلم من الحنابلة، ثم صارت ملجأ لغيرهم من طلاب العلم بشتى فروعه، فكانت تدرس فيها علوم القرآن والحديث والفقه واللغة العربية والأدب والتاريخ وغيرها، وكثر عدد المدرسين فيها، وكان من بينهم عشرة لتعليم القرآن، وشيخ لتعليم الأطفال وآخر لتعليم المكفوفين، وضمت مكتباتها الأربع العظيمة أهم الكتب في شتى العلوم، ونوادر المخطوطات الثمينة، وكان لهذه المدرسة التي كانت بمثابة جامعة حقاً نظام دقيق لإدارة شؤونها والتدريس فيها والدراسة والإقامة، ووظائف عديدة للقائمين بأمورها من إداريين ومدرسين، وتولى التدريس فيها أكبر علماء العصور التي توالت عليها، وتخرج فيها عدد كبير من رجال العلم والقضاء والأدب من أبناء "دمشق" وغيرها من البلاد».

أما عن السكن الداخلي فيخبرنا السيد "جلال الدين الأحمدي" من أهالي منطقة الصالحية: «إننا نذكر بالتداول أنه كان الطالب الداخلي الذي يدرس فيها يتمتع بميزات ومساعدات عديدة، فيقدم له الطعام الوفير، والغذاء الجيد واللباس المطلوب، ويجد فيها جميع المرافق اللازمة له مما لا يوجد كثير منه في أهم المدارس والمعاهد العلمية اليوم، حتى قيل إنه لم يكن شيء من أنواع البر إلا وهو موضوع في "العمرية"».

وقد كتب العالم الأديب "علي الطنطاوي" فصلاً قيّماً عنها في كتابه "دمشق 1959" بعنوان "حي الصالحية في دمشق" ومما قال: «أما "المدرسة العمرية"، فلا بد من أن أقف عليها وقفة، فإنها تستحق الوقوف، فلقد كانت تسمى المدرسة الشيخة، أي الجامعة، وكانت جامعة حقاً، وكان فيها على الرغم من أنها مدرسة حنبلية، ورغم العصبية المذهبية التي كانت للعوام، كان فيها أقسام مستقلة، كليات للمذاهب الأربعة يتولاها جلة علمائها، وكان فيها كلية للقرآن وقراءاته وعلومه، وهذا من أعجب ما رأيت من عبقرية هذه الأسرة "بني قدامة" وسبقت زمانها، قسم للمكفوفين "مدرسة عميان" وقسم للأطفال "روضة أطفال"، وأعجب من هذا أن الدروس والتلاوات كانت تستمر فيها الليل والنهار، حتى أن الأمير "منجك" بعث من يراقبها، فلم يرها فترة من درس أو ذكر، أو تلاوة أو ساعة من الأربع وعشرين ساعة، وكان فيها عدة خزائن فيها نفائس الكتب، وكل هذا الجيش من الطلاب يأكل وينام في المدرسة فكان يوزع كل يوم ألف رغيف، وبطيخ للجميع، وتقدم لهم الفواكه والحلوى، ومعهم جيش من الموظفين لهم رواتب وسجلّات، وللطلاب سجلّات وتفقد، وكان لشيخها رتبة عالية تعادل رتبة مدير الجامعة هذه الأيام، وكان هذا كله في العصر الذي نسميه عصر الظلام».

هنا وينهي الأستاذ "محمد محي الدين" حديثه معنا عن "المدرسة العمرية" بقوله: «ظلت هذه المدرسة عامرة مزدهرة تخدم العلم وطلابه عدة قرون، وكان النظر عليها لمؤسسها الشيخ "أبو عمر"، ثم خلفه في إدارتها أولاده وأحفاده وتولى أمرها فيما بعد أناس أفسدوها وباعوا من أوقافها».

من الجدير بالذكر أن المدرسة أغلقت حالياً من قبل وزارة الأوقاف إلى حين البدء العمل بعمليات الترميم والصيانة، حسب مديرية الأوقاف بدمشق.