يتميز السيد المعماري "رهيف فياض" مدير مؤسسة الدراسات المعمارية والمدنية في "بيروت" أستاذ التصميم المعماري في معهد الفنون الجميلة بالجامعة اللبنانية بعشقه الشديد للمدن التاريخية ومنها "دمشق" و"حلب" و"اللاذقية"، حيث دفعه هذا الحب لزيارة "سورية" بدعوة من مركز "تريم للعمارة والتراث" لإلقاء محاضرتين في "دمشق" و"اللاذقية" عن قيمة مدننا التاريخية والتراثية وضرورة الحفاظ عليها.

موقع "eSyria" التقى المعماري " فياض " يوم الخميس 12/3/2009 في حوار خاص للحديث عن القيمة التاريخية والمعمارية لمدننا.

علينا جميعاً أفراداً ومؤسسات وهيئات حماية آثارنا وتراثنا من الاندثار وأن نعمل على توعية الأجيال القادمة بأهمية تراثنا وتاريخنا لأن ذلك يجسد وجودنا، كما أن على المعماريين والباحثين في مجال الآثار منع كل ما من شأنه إلحاق الضرر بكل ما يمت بصلة بتاريخنا وحضارة أجدادنا، لتبقى الأصالة قائمة خاصة أننا نعيش في مرحلة تزداد فيها المؤامرات الرامية إلى النيل من هويتنا وتاريخنا، لذلك فإن هذه المهمة تتطلب منا الحرص واليقظة والمزيد من الوعي

*الأستاذ "فياض" نرحب بك في موقعنا ونريد الحديث أولاً عن أهمية هذه المنطقة تاريخياً؟

السيد " فياض " خلال محاضرته في مكتبة الأسد بدمشق

**«إن كل المكتشفات الأثرية منذ نشأة هذا العلم حتى يومنا هذا، تؤكد أن منطقة الشرق الأوسط العربي، هي المهد الأكيد الذي شهد ولادة المدن الأولى في التاريخ، فمنذ الألفية الرابعة قبل الميلاد، في الجنوب عند ملتقى نهري دجلة والفرات، وإلى الشمال في منطقة الوسط بين النهرين، تكونت مجموعات مبنيَّةٌ، تميَّزت بأنماطٍ من التنظيم المديني يحدِّد وسط هذه المجموعات، بصفته مركزاً يشكِّل قلبها، فيه مبانٍ دينية وأخرى مدنيَّة مختلفة، من بينها مباني الحكم، وفي الألفين التاليين، وربما قبل ذلك، انتشر هذا التنظيم المديني في معظم أرجاء المنطقة، فنشأت مدنٌ كانت عواصـمَ لتنظيمات إقليمية مثل سومر، وبابل، وإيبلا، وأخرى تجارية على الشاطئ الكنعاني ـ الفينيقي في جبيل (بيبلوس)، وأوغاريت، وصور، وغيرها، ليصل بعد ذلك إلى المدن المعابد في وادي النيل، مثل ممفيس والكرنك».

  • ما الذي يميز هذه المدن إلى يومنا هذا؟ وكيف انتشر التنظيم المديني إلى مناطق أخرى؟
  • بيت دمشقي قديم

    ** «إذا كان بعض هذه المدن قد تحوَّل إلى أطلالٍ، فإن حالاتٍ من الاستمرار العنيد لا تزال تُشاهد اليوم في "دمشق" وجبيل (بيبلوس)، وصور، وغيرها. ومن عناصر الاستمرار المميزة، هو البيت المكعَّب المنَّظم حول فناء داخلي مفتوح تدخله السماء، وهو نموذج من السكن انتشر خلال العصور القديمة في كل أرجاء الشرق الأوسط العربي، وما يزال موجوداً بكثافة حتى يومنا هذا، وفي زمن قصير نسبياً، لم يتعدَّ القرن الواحد إلا بقليل، انتشر "الإسلام" حتى وصل إلى "اسبانيا والهند"، ورافق هذا الانتشار، ازدهارٌ مديني قلَّ نظيره، ومهما كانت النظرة إلى هذا الازدهار المديني، في أصوله وميزاته، فالمؤكد أنه قرابة نهاية الألفية الميلادية الأولى، كان في الوطن العربي، المجموعة المدينيَّة الأكثر عدداً في العالم. إذ كان فيه آنذاك، ما يقارب العشر مدن التي يتعدَّى عدد سكَّانها مئة ألف نسمة، ففي مشرق الوطن العربي، شُيِّدت على التوالي، "البصرة " و"الكوفة " و"الفسطاط" التي بناها "عمرو بن العاص"

    وكانت النواة الأولى لبناء "القاهرة"، أما في المغرب العربي، فبنيت "القيروان"

    الجامع الأموي بدمشق

    وقد بناها "عُقْبة بن نافع"، وبعدها "المونستير وسوسه والمهديَّة"، واستمر الحراك باتجاه الغرب، فبنيت "فاس" و"مرَّاكش"، هذا في مجال المدن الجديدة مع التأكيد بالطبع، على التطور المديني الاستثنائي الذي شهدته مدن المشرق العربي العريقة، مثل "حلب، ودمشق، والقدس، وأنطاكية" وغيرها».

  • ما هي الأسس التي قامت عليها الحياة المدينية؟
  • ** «لقد شكَّلت التعاليم والقواعد العامة للسلوك التي أرساها الإسلام في حياة الناس الأُسسَ التي قامت عليها حياةٌ مدينيةٌ جديدة، وأَنحازُ دون تردُّد، إلى الموقف الذي يرى أن هذه المدن العربية الإسلامية، تجسِّد بحقٍّ، طابعاً خاصاً مميزاً، ونموذجاً أصيلاً، لما ستكون عليه المدن العربية الإسلامية، التي تألقت في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، لقد ارتكز هذا النموذج المديني العربي الإسلامي، على قراءة ترى أن تنظيم المجال مدينياً، يقوم على مركزٍ لا تشيَّد فيه إلا المباني العامة بشقيها الديني والمدني، إضافة إلى مباني الحكم. أما المناطق السكنية فتتوزَّع في الأطراف، محدَّدة بطرقٍ تربطها بالمركز. إن في هذه القراءة رؤيةً لاستمرار موروثٍ مدينيٍّ عربي في المدن الإسلامية الجديدة، آت من "اليمن ومن الحجاز"».

  • ما هي الركائز التي تقوم عليها الصفةُ التاريخية لهذه المدن؟
  • ** «تقوم على ركائز ثلاث:

  • الأولى: أنها نماذج لمدن تاريخية قطعت مع النماذج المدينية القائمة في زمنها، وأسَّست لنماذج مدينية جديدة واضحة الأصالة.

  • الثانية: أن أجزاء هامة منها، استمرت عبر التاريخ، ووصلتنا بخاصيَّاتها رُغم كل التحدِّيات.

  • الثالثة: أن الناس يعيشون اليوم في هذا الإطار التاريخي الموروث. إنها أمكنةٌ مميَّزة للسكن، وللنشاط الاجتماعي المتعدد الأوجه.

  • فـ "الأهرام " آثارٌ، و"البتراء" أثرٌ، و"قلعة حلب" أثرٌ.

    أما "القاهرة القديمة" حيث يعيش ويعمل ما يزيد عن "مليون نسمة"، و"حلب القديمة" حيث يعيش ويعمل كُثرٌ أيضاً، و"صيدا" و"طرابلس" القديمتان في "لبنان"، إن هذه الأجزاء من المدن، هي أجزاء مدينية تاريخية بامتياز».

  • المعماري "فياض" ما الذي تجده في العلاقة بين المدينة والعمارة؟
  • ** «التراثُ المديني والمعماري، هو الإرث الحضاري لمجتمع ما. فالمدينة، والعِمارة، هما مرآة هذا المجتمع، وتجسيدٌ له. والإرث هذا، هو وثيقةٌ تاريخية، وحقيقة ثقافية، وانطلاقاً من هذه القيم، تُحدَّدُ مكانةُ أجزاءِ المدن التاريخية والتراثية في حياة الناس، وتَتحدَّد أساليبُ التعامل مـع هذه الأجزاء، وسياساتُه. وكلُّ ما نقوم به، يهدف إلى إطالة حياة هذا الإرث الثقافي الهام، لنُبرزه، ونؤكِّد قيمته الحضارية لنا، وللإنسانية جمعاء. فنحافظُ عليه، أي نمنعُ تدهوره نتيجة الظروف المناخية، أو نتيجةً لتصرفات الناس، ونهتمُّ بإبراز تميُّزه، وفرادة حضوره في الثقافة الإنسانيـة، ونجعله موضع عناية وقائية مستمرة تطالُ النسيجَ المبنيَّ وكلَّ ما يحوطه في المكان، إن هذه المقاربة تفترضُ منهجاً يقوم على مناسيبَ ثلاثة:

    ـ الأول: المحافظةُ على هذا الإرث الثمين، نحميه من أي تغيير قد يهدِّده، ونُبعد عنه التعديات والأخطار.

    ـ الثاني: ترميمُه، مدركين بدقَّة، التراكم الظاهر فيه، عبر اجتيازه مراحل تاريخيةٍ متعاقبة، حملت كلُّ مرحلة منها طابَعَها الخاص، وعِمارَتَها لغةً ومفردات.

  • الثالث: تأهيله وإعادة استعماله، مع تحديدٍ دقيق للاستعمالات الجديدة الممكنة له، وللتغييرات المقبولة فيه، والتي قد تتطلِّبها الاستعمالاتُ الجديدة».
  • ما هي الوظائف التي كانت تقوم بها المدن التاريخية؟
  • ** «معظم المدن الهامة في الوطن العربي مشرقاً ومغرباً، هي مدنٌ تاريخيَّة، انتقلت إلينا أجزاؤها كما كانت عليه عند تشييدها، حاملةً معها تحولاتٍ مدينيةً متواصلة لا قطع فيها. وظلَّ مركزُها قلبها يقوم بوظائفه الثلاث التي أنشئ من أجلها، وهي الوظائف الدينية، والمدينية التجارية، ووظيفة الحكم. إذ نجد في مراكز معظم هذه المدن، الجامع الكبير ومساجد أخرى أصغر منه، ومباني الحكم، والأسواق. ومن هذا المركز تنطلق الطرق المستقيمة أحياناً، والمتعرِّجة كالمتاهات أحياناً أخرى، إلى الأحياء السكنية في الأطراف. وتميَّزت الأجزاء التاريخية هذه، بخاصياتٍ عديدةً هي ثمرةُ تكاملها مع بيئتها الطبيعية والثقافية. إنها خاصياتُ الأصالةِ والانتماء التي لا تزال واضحةً إلى الآن، أذكر بعضَها، تمركزُ النشاطات التجارية في الأسواق التقليدية وحولها، وتواصلُ النسيج المبني كثيفاً ومتلاصقاً، مما جعل الأجزاء التاريخية من المدينة، مجالات للمشاة، وديمومةُ الدلالات على الطابع الإسلامي للمدينة، يعبِّر عنه تعدُّد المساجد، والمدارس، وبعض مكمِّلات العبادة، مثل أقنيةِ المياه والنوافير».

    *ما انعكاسات الاحتلال الغربي على بنية العمارة في مدننا التاريخية؟

    **« لقد حّل الاحتلال الكولونيالي عندنا باكراً وقطـع بشكـلٍ فـجٍّ التطور الطبيعي لمدننا الذي استمر متكاملاً مع بيئتها الطبيعية والثقافية قروناً، وأسقط فوق النسيج المبني التقليدي لهذه المدن، تنظيماً مدينياً مستورداً صمَّمه منظِّمو المدن الذين جاؤوا معه، فحاصر الاحتلال مدينة "عدن" التاريخية في موقعها الطبيعي، وهدم الاحتلال أجزاءً كبيرة من النسيج التقليدي المبني في "بيروت"، وبنى فوق الركام مدينةً كولونياليةً مستوحاةً من النمط "الهوسماني الباريسي" في شبكة الطرق، وفي العِمارة».

    *ما المطلوب للحفاظ على عراقة مدننا التاريخية؟

    ** «علينا جميعاً أفراداً ومؤسسات وهيئات حماية آثارنا وتراثنا من الاندثار وأن نعمل على توعية الأجيال القادمة بأهمية تراثنا وتاريخنا لأن ذلك يجسد وجودنا، كما أن على المعماريين والباحثين في مجال الآثار منع كل ما من شأنه إلحاق الضرر بكل ما يمت بصلة بتاريخنا وحضارة أجدادنا، لتبقى الأصالة قائمة خاصة أننا نعيش في مرحلة تزداد فيها المؤامرات الرامية إلى النيل من هويتنا وتاريخنا، لذلك فإن هذه المهمة تتطلب منا الحرص واليقظة والمزيد من الوعي».

  • قبل ختام حوارنا نريد معرفة نبذة شخصية عن المعماري "رهيف فياض"؟
  • ** «كنت رئيساً لهيئة المعماريين العرب، وحالياً أتولى إدارة مؤسسة الدراسات المعمارية والمدنية في بيروت، وأستاذ التصميم المعماري في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، وعضو في عدة لجان تحكيم دراسات عليا في عدد من الجامعات، وعضو في لجان تحكيم مباريات معمارية، لي عدد من المؤلفات منها "عقد من التصميم" و"الإنجاز" و"العمارة الغانية والاعمار الموجع" و"العمران والذاكرة" و"العمران والوهم" و"العمارة ووعي المكان" و"من العمارة إلى المدينة" وغيرها، كما أنني حائز على الجوائز الأولى في العديد من المسابقات المعمارية والعمرانية وقمت بتنفيذ وتصميم مشروعات عمرانية ومعمارية عدة هامة في أنحاء متعددة من العالم».