يحتفظ الجامع الأموي بدمشق في الرواق الشمالي منه بعربة كبيرة مستطيلة الشكل تروي لنا قصة المخترع السوري "عبد الغني الحموي" الذي صنع تلك العربة لينقل بها الأعمدة والأحجار الكبيرة من جبل "المزة" إلى المسجد لترميمه في عام 1893.

موقع "eSyria" خلال جولته في الجامع الأموي بدمشق التقى مدير العلاقات العامة في الجامع السيد "عصام سكر" الذي حدثنا بدوره عن تاريخ وقصة هذه العربة الموجودة في الجامع: «تعرّض الجامع الأموي الكبير بدمشق لحريق هائل عام 1893م نتيجة أن عاملاً كان يقوم بتصليح السقف في الجهة الغربية، حيث أحب أن يدخن الأركيلة هناك، أوقد ناراً ليشعلها، فأشعل السقف وامتدت النار بسرعة في كل أرجاء الجامع، وفي عام 1896م تم تشكيل لجنة للإشراف على إعادة ترميمه، وخلال عمليات الترميم ظهرت مشكلة في كيفية نقل الأعمدة الكبيرة الحجم إلى الجامع، فجاء النجار "عبد الغني الحموي" بفكرة صنع عربة تحمل هذه الأعمدة».

يقال إن "الحموي" اقترح على السلطان "عبد الحميد" أن يصنع عربة مستطيلة تجرها الثيران لها ملاقيط، تلتقط العمود وتحمله من جبل "المزة" إلى المسجد، وعندما لم تلق الفكرة الإعجاب من قبل السلطان، أخبرهم "الحموي" أنه رأى مثلها في مقاطع الحجارة في "ايطاليا"، فأمر السلطان بقيام "الحموي" بصنع العربة لنقل الأعمدة من "المزة" إلى المسجد

"الحموي" قام بطرح فكرة العربة من باب الصدفة، وهنا يقول "سكر": «يقال إن "الحموي" اقترح على السلطان "عبد الحميد" أن يصنع عربة مستطيلة تجرها الثيران لها ملاقيط، تلتقط العمود وتحمله من جبل "المزة" إلى المسجد، وعندما لم تلق الفكرة الإعجاب من قبل السلطان، أخبرهم "الحموي" أنه رأى مثلها في مقاطع الحجارة في "ايطاليا"، فأمر السلطان بقيام "الحموي" بصنع العربة لنقل الأعمدة من "المزة" إلى المسجد».

الجامع وقت الحريق

"الحموي" لم يكن مهندساً ولا متعلماً، ولم يزر "ايطاليا" في حياته، إلا أنه أخبرهم بذلك ليصنع العربة التي تأكد من نجاحها، عن ذلك يكمل "سكر": «نجح "الحموي" بصنع العربة التي حملت العواميد إلى المسجد الأموي، حيث استقبلت العربة مع النجار "الحموي" بالزغاريد والأهازيج، كما تم تصوير العربة عند وصولها إلى صحن الجامع لتكون إحدى وثائقه النادرة عن تلك الفترة، وعند وصول العربة إلى الجامع مع العواميد ‏أخبرهم "عبد الغني الحموي" بحقيقة أنه لم ير مثل هذه العربة في "إيطاليا" ولا ذهب إليها ولا إلى غيرها من الدول الأوروبية، وفكرة "ايطاليا" كانت فقط ليقوم بصنع العربة التي نجحت بحمل الأعمدة».

عملت تلك العربة في نقل الأعمدة من العام 1896 ولغاية العام 1901م، فاستمر العمل بإعادة بناء الجامع سبع سنوات متواصلة، واحتفل بافتتاحه من جديد في عام 1902 ميلادي، بعد ذلك تركت العربة في الرواق الشمالي للجامع حتى الآن.

العربة الآن

وينهي السيد "عصام سكر" حديثه معنا عن عبقرية النجار "الحموي" في صنع هذه العربة التي صنع لها بيت من الزجاج لحمايتها، فيقول: «إن الحاجة أم الاختراع، ومن هنا ورغم أن عمر العربة أكثر من مئة عام، قمنا بالاحتفاظ بهذه العربة لتكون شاهداً على عبقرية رجل أمي قدم فكرة لنقل الأحجار الضخمة بطريقة سليمة وسهلة من "المزة" إلى المسجد، فمؤخراً وبعد مرور 108 أعوام على انتهاء عملها تم بناء غرفه زجاجية تحيط بهذه العربة الخشبية لحمايتها، كما تم وضع لوحة تعريفية باللغة العربية للدلالة على تاريخ العربة».

خلال العودة إلى الكتب المتعلقة بالجامع الأموي وتاريخه نلاحظ أن الكاتب "علي الطنطاوي" كتب في كتابه عن "الجامع الأموي": «كانت دمشق آمنة مطمئنة، والناس منصرفون إلى أعمالهم في الأسواق المطيفة بالأموي، والنساء في بيوتهن الحافة بالجامع، فما راعهم إلا صريخ يصرخ، كأنه النذير العريان، لقد احترق الأموي، فترك التجار مخازنهم مفتوحة ووثبوا ينظرون، وصعدت النساء على السطوح، وتراكض الناس من كل جهة، وإذا الدخان ينبعث من سقف الجامع، ولم يكن في "دمشق" مصلحة إطفاء، وحار الناس ماذا يصنعون، فتسابقوا إلى سجاد المسجد ومصاحفه يخرجون ما يصلون إليه منها، وعمد بعضهم إلى الماء يصبونه، وإلى المعاول علَهم يحاصرون النار، ولكن النار كانت أسرع منهم، فما مرت نصف ساعة حتى صار السقف كله شعلة واحدة».

عبدالغني الحموي

يتابع "الطنطاوي" في كتابه: «اجتمعت اللجنة المشرفة على أعمال الترميم والمؤلفة من "فوزي باشا العظم، الشيخ اسماعيل أفندي منيني مفتي الشام، توفيق أفندي منيني، عطا أفندي العجلاني، أحمد بن سعيد أفندي القوتلي، عبد القادر أفندي الميداني" عدة مرات لطرح فكرة بنقل الأعمدة من "المزة" إلى المسجد لكنهم لم يجدوا طريقة جيدة وسهلة، وهنا قام أحد العاملين وهو "عبد الغني الحموي" بطرح فكرة تصنيع عربة خاصة تجرها الثيران يتم بواسطتها نقل الأحجار إلى الجامع، فاستغربت اللجنة من هذا الاقتراح الذي لا يجدي نفعاً ورفضت ذلك، وهنا أخبرهم "الحموي" أنه سبق أن شاهد مثل هذه العربة وهي تنقل الأعمدة الضخمة في "ايطاليا" وإنها ابتكار حديث لمثل هذه الأعمال الضخمة، قبل المشرفون على الترميم والبناء باقتراح "عبد الغني" وصنعت هذه العربة ونقلت الأعمدة الضخمة، من ثم أخبرهم "الحموي" بحقيقة أنه لم يذهب إلى "ايطاليا" وهي فكرة نابعة من خياله».

ويخبرنا المؤلف "أكرم حسن العلبي" في كتابه "خطط دمشق" أنه: «في السبت 4 ربيع الآخر سنة 1331هـ- 17 تشرين الأول عام 1893م كان الحريق الخامس في الجامع الأموي، وهو آخر حريق تعرض له الجامع، وسببه أن أحد العمال الذين يصلحون الجامع أشعل ناراً في يوم عاصف، في الجهة الواقعة فوق باب "الزيادة" القبلي، فلم تلبث النار أن انتشرت انتشارها في الهشيم وعمت الجامع كله، حيث احترق الحرم كله والرواق الشرقي ومشهد الحسين، وسوق القباقبية والقوافين، كما احترق زقاق "الحمراوي" المجاور، وأصبح الجامع قاعاً صفصفاً، ليس فيه إلا جدره والجهة الغربية من الجامع، ومن الآثار النادرة التي احترقت مصحف "عثمان" الذي غفل الناس عنه لانشغالهم بإطفاء الحريق، هنا وبعد إطفاء الحريق، وبقاء المسجد أشهراً طويلة من غير ترميم، قامت لجنة مختصة من الجامع بترميمه، إلا أن مشكلة نقل العواميد من جبل "المزة" إلى المسجد وقفت في وجههم لا يجدون الحل لها، فقام النجار "عبد الغني الحموي" بطرح فكرة تصنيع عربة تجرها الثيران، حيث أقنعهم بالفكرة من خلال قوله إنه رأى مثلها في "ايطاليا"، وبذلك صنع "الحموي" العربة وقام بنقل الأعمدة إلى المسجد، فهي حادثة مهمة لنجار أمي معماري له الخبرة الكافية في عمل النجارة».