على سفح جبل "قاسيون" وبالتحديد في زقاق النواعير بحي المدارس في منطقة "الصالحية" تقبع واحدة من أهم معالم "دمشق" التاريخية الفريدة من نوعها هي ناعورة "الشيخ محي الدين".

تعتبر ناعورة "الشيخ محي الدين" المثل الوحيد لهذا النوع من العمائر الإسلامية في دمشق، فهي لا ترتبط مع النموذج العام الذي اشتهر في "حماة"، و"الأندلس"، و"قرطبة" ولكنها تتشابه من حيث الوظيفة.

صحيح أن ناعورة "الشيخ محي الدين" تقوم بذات الدور الاجتماعي والوظيفي للنواعير المتعارف عليها أي رفع المياه من مستوى أدنى إلى مستوى أعلى، وتلبية احتياجات الإنسان والزراعة من المياه، إلا أنها مختلفة من حيث الشكل عن الناعورة المعروفة في مدن أخرى ولا سيما "حماة"

مدير دائرة آثار "دمشق" الدكتور "غزوان ياغي" بدأ كلامه لــ eSyria بتاريخ /8/6/2010/ بالحديث عن الدور الاجتماعي للناعورة قائلاً: «هي جزء من العمائر المائية التي اشتهرت بها الحضارة الإسلامية سواء في "دمشق" أو خارجها، وهي باختصاصها ودورها والوظيفة التي كانت تقوم بها بتسهيل وصول المياه للمحتاجين في منطقة كان من الصعب وصول المياه اليها لولا هذا الطراز من الآلات التي تفوق بها المسلمين بدءاً من القرن السابع الهجري أي الثالث عشر ميلادي، وهناك أنواع عديدة بهذا التصنيف البيمارستانات، النواعير، وأنواع أخرى من السواقي والطواحين وجميعها عمائر رعاية اجتماعية».

د.غزوان ياغي

وأضاف "ياغي": «صحيح أن ناعورة "الشيخ محي الدين" تقوم بذات الدور الاجتماعي والوظيفي للنواعير المتعارف عليها أي رفع المياه من مستوى أدنى إلى مستوى أعلى، وتلبية احتياجات الإنسان والزراعة من المياه، إلا أنها مختلفة من حيث الشكل عن الناعورة المعروفة في مدن أخرى ولا سيما "حماة"».

فما قصة هذه الناعورة، ومن بناها، وأسباب بنائها؟

القسم الاعلى من الناعورة مع البرج

السيد "غفران الناشف " من مجمع اللغة العربية بــ "دمشق" واحد المهتمين بالتراث قال في اتصال هاتفي معه بتاريخ /13/6/2010/: «أعتقد حسب الدراسات المتوفرة بين أيدينا، والأقوال المنقولة شفاهاً، وزيارتي للناعورة غير مرة أن الهدف الأساس لإشادتها قرب جامع "محي الدين بن عربي" هو تأمين المياه وإيصالها لعدة أماكن عامة أولها الجامع، والتكية السليمية التي أمر ببنائها السلطان "سليم الأول"، وتغذية أقدم منشأة للطب النفسي -"البيمارستان القيمري"- بالمياه اللازمة والذي أقيم في تلك الأثناء بالقرب من الجامع، إضافة للأحياء المجاورة، وبقيت الناعورة تعمل ولو بشكل جزئي حتى مطلع سبعينيات القرن الماضي حيث بدأت مياه "نهر يزيد" تشح»

ويوضح مدير دائرة آثار "دمشق"قائلاً: «كان السلطان العثماني "سليم الأول" محباً لـ "الشام" وأهلها، ولما دخلها أراد التقرب منهم أكثر، فكان أن زار قبر الشيخ "محي الدين بن عربي" في قرية "الصالحية" على سفح جبل "قاسيون"، وكان يفصلها عن "دمشق" بساتين ورياض كثيرة، فأمر ببناء جامع، ثم بنى "التكية السليمية" قرب مدفن "محي الدين بن عربي" لإطعام الفقراء وزوار مقام "ابن عربي"، وبعد إتمام بناء التكية والجامع بسنوات كلف المهندس الدمشقي "تقي الدين بن معروف" أحد المهتمين بعلم الآلات وآلات الرفع، لتصميم وبناء ناعورة على "نهر يزيد" للشرب وللسقاية».

جامع محي الدين بن عربي وتظهر الناعورة أمامه وسط بيت عربي

ويتابع الدكتور "ياغي": «إذاً نحن بحاجة آلة لرفع الماء من "نهر يزيد" أحد فروع "نهر بردى" إلى مستوى أعلى، لتزويد "حي المدارس" والجامع والتكية بالمياه، فكان التصميم والبناء الفريد من نوعه على يد المهندس "تقي الدين" من حيث قدرته على رفع الماء من المستوى الأدنى إلى المستوى الأعلى بالاعتماد على القوة الذاتية، لأن الآلات التي تشبهها بالعمارة الإسلامية كانت تدار بنوعين، النوع الأول: بقوة الدواب وكان هذا شائعاً ومنتشراً، أو أن تدور بقوة دفع المياه لنهر كبير مثل "العاصي" أو "الفرات"، أما أن يتمكن من ضخ الماء من مستوى منخفض – النهر- إلى ارتفاع يصل لنحو عشرين متراً، ودفعه عبر قناة معينة بالاعتماد على القوة الذاتية لنهر صغير، فهو تفوق نادر في علم الميكانيك في العقد الثاني من القرن السادس عشر ميلادي».

ويصف لنا الدكتور "ياغي" ناعورة "الشيخ محي الدين بن عربي"قائلاً: «الناعورة جزءان: ميكانيكي متحرك، وجزء ثابت "البرج" أما المتحرك فهو عبارة عن دولاب يتحرك بقوة جريان المياه نهر "يزيد"، فيدير دولاباً آخر مركب عليه سلسلة قواديس - تدور مع دوران الدولاب- تغرف الماء وترتفع به صاعدة حتى أعلى البرج الذي يسيطر على الناعورة بأكملها، حيث يلتف القادوس ليفرغ ما بجعبته من ماء بخزان صغير يرتبط بمجرى يمتد لأكثر من خمسين متراً، ليوزع الماء على "البيمارستان القيمري" الملاصق للناعورة والذي أسس بأواخر العهد المملوكي / 1254/، وحي المدارس، والمقام، والجامع، وأمكنة المغاسل والمطاهر والوضوء، والتكية لخدمات الطبخ».

ويختم الدكتور "ياغي" حديثه: «هذه الناعورة، التي تحتفظ بها "دمشق" من أكثر من خمسمائة عام، وما زالت قادرة على العمل، أو بالأحرى توقفت عن العمل نهائياً مطلع سبعينيات القرن العشرين لأسباب عدة: أولها عدم وجود اعتمادات واضحة للصيانة، لذلك نجد أن بعض القواديس عبارة عن صفائح من التنك، وثانيها دخول الماء بشكل رسمي من "عين الفيجة" للأماكن التي كانت تتغذى من مياه الناعورة، وأخيراً تدني نسبة تدفق مياه النهر بعد تمديدات "عين الفيجة"، وسحب المياه وتوجيهها عبر أنابيب وقساطل وتوزيعها على رقعة أكبر، وأخيراً تلوث مياه النهر ليصبح غير صالح للشرب بعد أن كانت مياهه تستخدم بالطبخ والغسيل، هذه الظروف كلها تستدعي منا التوقف عندها، وتتطلب إعادة هذه الناعورة إلى الحياة من جديد»

لكن ما الذي يمنع إعادتها للحياة يقول مدير دائرة آثار "دمشق": « وضعت مديرية الآثار خطة منذ سنتين لترميمها بالكامل للحفاظ عليها، وعدم السماح بزيادة تهالكها حتى الضياع، وهناك دراسة مع وزارة الأوقاف والمحافظة لإخلاء منطقة التعديات حولها، ونحن بانتظار التنفيذ بشكل يمكننا من الترميم الكامل واللائق وتحويل المنطقة المحيطة إلى حديقة ضمن الخطة السياحية لمدينة "دمشق" لأنها تقدم نوعين من المتعة: متعة الزيارة الثقافية التي تعطي معلومة جميلة عن هذه المنطقة، ومتعة الترفيه السياحي».