الفخار.. الصناعة الأولى التي خطت البشرية أبجديتها الأولى عليها.. فكان ذاكرتها التي تستحق أن نقف عندها نقلب صفحاتها فنجد الإبداع والابتكار الذي يجدر بنا أن نتذكر دائماً أنه لا يعني حداثة وتقانة اليوم فحسب، فلكل عصر تقنيته ولعل أجملها تلك التي استند فيها الإنسان إلى صديقته الطبيعة الأم، وكذلك هو الفخار الذي ننظر إليه اليوم كصناعة تراثية جميلة حيث كان يصنعه أسلافنا يدوياً في بيوتهم اعتماداً على ما جادت به الطبيعة.

موقع eDaraa التقى السيدة "عائشة المسالمة" (أم عساف) من منطقة "درعا- البلد" في 25/6/2009 والتي زودتنا على بساطتها وكبر سنها بالكثير من المعلومات عن الآنية الفخارية التي نعرفها باسم "الجرة" فيما أصرت الحاجة "عائشة" على تسميتها "بالخابية" حيث تقول:

ويل ويلي والله لعَبّي الجرة من ميتك ياسيلي ويل ويلي شوقي راسو واجعو.. ويل ويلي ريت الوجع لراسي ## واردة على بير المي ## ويل ويلي اتهموني واتهموك وان حلفوك على المصحف احلف ولاترميني

«كنا نصنعها في البيت يدوياً بأحجام مختلفة ويتبع ذلك الغرض من استخدامها، فالآنية الفخارية الكبيرة الحجم تعرف باسم "الخابية" ويوضع فيها الماء للحفظ والتبريد ويتبع حجمها أيضاً حجم الأسرة من حيث عدد أفرادها وحاجة أهل البيت للماء، في السابق كانت "الخابية" تعبأ بشكل يومي من قبل صاحبة البيت بالماء الذي تجلبه من عين الماء أو النبع بواسطة القربة، في بعض الأحيان وعلى الأغلب كانت تجلب الماء بواسطة الوعاء المعدني المعروف باسم "السطل" وكانت "الخابية" تتسع ما بين ستة إلى أربعة عشر سطلاً حسب حجمها وسعتها، تعبئها فجراً ويشرب الجميع منها،

السيدة عائشة مسالمة

وكان الماء يعبأ من "الخابية" بواسطة كأس خشبي يسمى "بالشفشق" وكان هذا الوعاء دائماً يربط بخيط إلى يد الخابية.

وبالمناسبة فإن المرأة التي تعبئ الماء تسمى "بالدوارة" وهذه "الدوارة" عليها أن تقوم بأعمال البيت من تنظيف وطبخ وتعبئة الماء، ثم تسلم هذه المهمة إلى امرأة أخرى من البيت في اليوم التالي، وكانت هذه "الدوارة" أيضاً تقوم بتنظيف "الخابية" بعشبة "الخبة" وهي عشبة طيبة الرائحة».

الطوس الى اليمين والخابية

وتضيف السيدة "عائشة" عن أدوات فخارية أخرى ولاستخدامات متعددة فتقول:

«الشكل الآخر للآنية الفخارية يسمى "بالبيطس" هو أيضاً آنية فخارية كبيرة الحجم تصنع لحفظ السمن العربي. وهناك أيضاً "الطوس" الفخاري الذي كان يستخدم لترويب اللبن (صنع اللبن).

البكسة والجرة

و"البقسة" آنية فخارية صغيرة الحجم كانت تصنع لطهو الفول حيث كان يشكل الغذاء الأساسي، وقد كانت المرأة تعبئها وتضعها على أطراف الفرن الأرضي الذي كانت تصنعه النساء أيضاً من نفس مواد صناعة الجرار، وكان يستخدم للخبز ومن مميزات هذا الفرن أنه في كل مساء تقوم "الدوارة" بتغطية جوانبه بالتبن ليبقى محافظاً على حرارته حتى صباح اليوم التالي،

وكن يستفدن من هذه الحرارة المخزنة بإعداد وجبة الفول لصباح اليوم التالي حيث تقوم الدوارة بملء البقسة بالفول والماء وطمرها في التبن الموضوع على جوانب الفرن وتغطي فوهتها بقطعة قماش، ومن ثم تغطى بغطاء فخاري وتترك على الرماد أو الجمر حتى صباح اليوم التالي ليكون بذلك قد استوى».

وأما عن طريقة صنع الخابية فتقول السيدة "عائشة":

«إن مكونات الفخار عبارة عن تراب أحمر ونبات الطريش والنقارة (والنقارة عبارة عن الحجر الأزرق المطحون بالطاحونة) وقطعة من كيس كتان أحمر مدقوق، تخلط هذه المواد جميعها وتجبل سوياً ثم تصنع من الخليط قاعدتها، وذلك حسب الحجم المرغوب وتترك لليوم الثاني، ثم تضع النساء كيساً من التبن في القاعدة،

ومن ثم يوضع المخلوط على كامل الكيس فتأخذ "الخابية" شكلها ويترك لها من الأعلى فتحة لسكب المياه، في اليوم التالي تقوم النساء بسحب التبن الذي أصبح داخل الخابية ثم يقمن بترميم "الخابية" من الداخل والخارج لتأخذ شكلها النهائي، في اليوم التالي توضع "الخابية" في حفرة عميقة بعد أن نكون وضعنا في أسفلها التبن ومن فوقها أيضاً وعلى الأطراف، توقد النار حتى تشوى وتبقى في الرماد مدة يومين،

كنا نعمل من الفخار أيضاً "الفرنية" لصنع الخبز التي كانت تصنع من ذات مادة الفخار، حيث كانت النساء تختار المكان المناسب لصنع الفرن أو "الفرنية" ويفرش هذا المكان بالبحص المطحون ثم يوضع المخلوط فوق البحص بشكل دائري، ويترك لليوم التالي حتى يجف، وفي اليوم التالي يبدآن بصنع جدار دائري على القاعدة التي تم صنعها في اليوم الأول، وهكذا كل يوم حتى تأخذ الفرنية الارتفاع المناسب لها».

ولعل الارتباط الشديد بين الفخار وبين ذاكرتها جعل السيدة "عائشة" تصرح بمكنوناتها:

«بالنسبة لي أتمنى لو أن أيام "الخابية" ما زالت موجودة، فذكرياتنا معها جميلة، ولطعم الماء فيها نكهة أخرى، لا ننكر أن التقنية الحديثة المتمثلة بالبراد قد جلبت الراحة، ولكن لذاك الماء طعم لا ينسى. ونحن نرى اليوم أن هذه "الجرار" أصبحت تصنع بأشكال وألوان لتوضع كزينة في بعض البيوت».

وحيث إن "الجرة" المتوسطة الحجم المصنوعة من الفخار كانت وثيقة الارتباط بالينابيع وعيون الماء كانت تردد الأغاني الشعبية على "الجرة" ومن هذه الأغاني يردد المطرب الشعبي "محمد فتوح" على أنغام صوت الناي مع العازف "عماد العمري":

«ويل ويلي والله لعَبّي الجرة من ميتك ياسيلي

ويل ويلي شوقي راسو واجعو.. ويل ويلي ريت الوجع لراسي

واردة على بير المي

ويل ويلي اتهموني واتهموك

وان حلفوك على المصحف احلف ولاترميني».

وبالعودة للتاريخ نجد أن الفخار قد سجل حضوراً قوياً بل كان مادةَ خامٍ أساسية، وعن أهمية تصنيع الفخار قال الآثاري "ياسر أبو نقطة" لموقع eDaraa:

«إن مادة الفخار مصنعة من التربة الغضارية الناعمة والخالية من التراكيب الزجاجية كالكوارتز والسلكيات، وتكون مادة الفخار مشوية بالمواقد المكشوفة أو المغلفة تحت درجات حرارة عالية أو متوسطة لا تقل عن /600/ درجة، والتي ينتج عنها نوع من الآنية الفخارية بألوان متنوعة تتبع نوع التربة ودرجة حرارة الشي، وتتميز الآنية بجسمها غير النفوذ لما يحويه من السوائل.

وكان الظهور الأول للفخار في منطقة شمال "سورية" حيث ضمت النماذج الفخارية الأولى، وعلى هذا الأساس تعتبر "سورية" الموطن الأول للفخار وتحديداً في منطقة "تل الجديد" وذلك في مطلع الألف السادس قبل الميلاد وهي تعود للمرحلة المسماة "العمق آ" ولابد من الإشارة إلى أن الأبجدية الأولى كتبت على لوحات فخارية وأن الفنون الأولى وتماثيل الرب الأم والخصب المتجدد كانت من الفخار الذي مثل الصناعة الأولى "الجرار"».

ويضيف: «إن الخوابي الكبيرة الحجم كانت تستخدم بشكل عام في عملية تبريد وتكييف الجو داخل البيوت من خلال وضعها بعد ملئها بالماء تحت النوافذ، وذلك لتبريد تيارات الهواء التي تمر من فوق الخوابي المشبعة بالرطوبة مما يؤدي إلى تبريد التيارات وتوزيعها داخل البيوت والغرف، وبالتالي حدوث عملية تكييف طبيعية».