«أمستْ دياري بمنأى لا أغادِرُها/ إلاّ لتقديم حاجاتٍ لأولادي/ بيتٌ من الطين والأحجار أقطنه/ على طريقة آبائي وأجدادي/ يا من تذكّرتني يوماً ولم ترني/ إنّي بوادٍ ودير الزور في واد». لعل هذه الأبيات الجميلة للشاعر "أحمد الراوي" تبين الحال الذي كان عليه قائلها، فهو على ما يبدو قد عاش غربة للروح وهو بين الأهل والأصحاب، إذ كانت "دير الزور" في القرن العشرين المدينة الولود التي أنجبت عدداً من المبدعين، لكن أغلبهم لم ينل حظه من الشهرة والاهتمام شأنه شأن مدينته.

ولمعرفة تفاصيل أكثر عن هذا المبدع التقى eSyria الشاعر المهندس "ماجد الراوي" ابن الشاعر "أحمد الرواي"، فقال لنا: «ولد الشاعر "أحمد الرواي" في محافظة "دير الزور" عام 1931م في أسرة معروفة بالدين والأدب.. والده الأستاذ "عبد الغفور الراوي" من أوائل المعلمين في "دير الزور" وقد تخرّجت على يديه أجيال عديدة من الطلاب.

بما أنّ والدي كان معروفاً بحرصه الشديد على ألا يطّلع أحد من أولاده أو غيرهم على شعره لكي لا يحفظه أحد، ولا يُعطي إلا نادراً نسخة من قصيدة نظمها، ولا يحتفظ إلا بالنسخة الأصلية ويبقيها عنده، فقد كان هذا الحرق هو نهاية شعره تماماً إلاّ شذرات من هنا وهناك، أو قصائد حصلنا عليها وبطرق عسيرة، ربّما كلفتنا السفر إلى مدن أخرى. ونحن اليوم مطالبون ومن قبل أنفسنا أولاً بطباعة ما أمكننا جمعه من تراث والدنـا رحمـه الله، وإن لم نسـتطع جمعه كله، وكمـا يُقال "ما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه"، راجين من الله أن يوفقنا إلى حمل هذه الأمانة وأدائها بما يرضيه ويرضي الجميع

كان لوالده الأستاذ "عبد الغفور" دور كبير في نشأته فقد كان شيخاً فقيهاً وأستاذاً قديراً وكان يقرض الشعر ويحفظ الكثير من أشعار العرب وآدابهم.

الشاعر ماجد أحمد الراوي

لوحظ على "أحمد الرواي" منذ طفولته تعلقه بالشعر والأدب وكان سريع الحافظة والبديهة ينصت إلى أي حديث أدبي أو ديني فيلتقط ويحفظ ما يسمع بسرعة.

كان الشاعر "أحمد الرواي" إنساناً رقيق القلب متواضعاً ميالاً للبساطة، وكان دقيق الملاحظة بشكل غريب، كما كان جاداً وحازماً ومتمسكاً بآرائه.

درس منذ الصغر الفقه والقرآن الكريم والسيرة النبوية والحديث الشريف وحفظ منها الكثير.

وقد كُتب له بحكم وظيفة والده التعليمية أن يتنقّل مع أسرته من مكان إلى آخر في ريف المحافظة حيث عاش مرحلة الطفولة على ملتقى الفرات والخابور فأحب الطبيعة الوادعة هناك.

ثمّ انتقل مع أسرته حيث انتقلت حتّى عاد إلى مدينة دير الزور عندما عاد والده إليها معلماً في مدارسها حيث حاز الشهادة الإعدادية الصناعية، وأثناء وجوده طالباً في الإعدادية الصناعية ظهرت موهبته الشعرية التي تجسّدت فيها مشاعره القومية أثناء الأحداث الوطنية والقومية، وأهمها قضية فلسطين.

ولمّا كان الشاعر "محمد الفراتي" صديقاً لوالده فقد سمع نماذج من شعره فأشاد به وشجّعه وتوقّع أن يكون له شأن في هذا المضمار».

ارتباط وثيق جمع بين الشعر والوطن في فكر "أحمد الراوي"، يضيف المهندس "ماجد": «عُرف منذ كان طالباً بعاطفته القومية المتأججة وتأثره بقضايا أمته وأهمها قضية فلسطين، فكثيراً ما كانت الجماهير في "دير الزور" تخرج منددة بوعد بلفور مثلاً أو جريمة ارتكبها الصهاينة في فلسطين ليقف معبّراً بقصائده الشعرية عن عواطفه وانفعالاته تجاه هذا الحدث أو ذاك أمام حشود الجماهير المتحمسة والتي تتفاعل معه وتجد في قصائده التعبير الصادق عن مشاعرها.

دعي لتأدية الخدمة الإلزامية وبعد انتهاء الخدمة سافر إلى مدينة دمشق عام 1953م حيث عمل مدققاً لغوياً في مجلتي "الجندي العربي" و"العسكرية" ونشر قصائد ومقالات كان لها وقعها آنذاك، كما ألقى قصائده من إذاعة دمشق.

عاد إلى "دير الزور" ليعمل موظفاً في إذاعة بث "دير الزور" عام 1959م.

دعي عام 1964م هو والشاعر "محمد الفراتي" للاشتراك في مهرجان "ذكرى مرور ألف عام على وفاة الشاعر العباسي الشريف الرضي".. أقيـم المهرجان في مدينة "اللاذقية". وقد اشترك فيه عدد كبير من الشعراء العرب منهم:

أبو سلمى "عبد الكريم الكرمي"، "يوسف الخطيب"، "محمد الفراتي"، "عمر يحيى"، "عزيزة هارون"، "أحمد الجندي"، وشعراء كثيرون من الأقطار العربية الأخرى.

حيث ألقى الشاعر "أحمد الرواي" في المهرجان قصيدة بلغت خمسين بيتاً تحدّث فيها عن "الشريف الرضي" ومكانته في الشعر العربي، ونحن نبحث عنها الآن لأنه أتلفهـا مـع ما أتلف من شعره، كان مطلعها:

ألا هَلْ لِما جاءَ الخيالُ بهِ قَيْدُ/ أم الشِّعرُ دُنيا ما لآفاقِها حَدُّ».

ويضيف "ماجد": «كتب الشاعر في شتى فنون الشعر من وصف وغزل وشعر قومي واجتماعي وديني وغيره. أرسلته هيئة الإذاعة والتلفزيون ببعثة إلى "تشيكوسلوفاكية" عام 1976م حيث مكث فترة جادت قريحته بقصائد أهمها القصيدة التي مطلعها:

حَمَلَتْني فَراشَةٌ مِنْ حَديْدِ/ وَمَضَتْ بِيْ إلى مكانٍ بَعيْدِ

وقد ضاع أكثرها، وقصيدة أخرى قالها بنهر "فلتافا" الذي يمر في مدينة "براغ" مطلعها:

"فُلْتافُ" ذَكَّرْتَنيْ بالدّارِ والوَلَدِ/ وَمَنْ تَرَكْتُ مِنَ الأحْبابِ في بَلَديْ

وهذه القصيدة لا نحفظ منها سوى هذا المطلع.

لم يكن الشاعر "أحمد الرواي" يسعى وراء الشهرة وإنما كان يكتب قصائده إرضاءً لموهبته الفطرية.

ولوحظ عليه في الفترة الأخيرة الابتعاد عن قول الشعر وعن الساحة الأدبية وكان يرفض أي حديث عن الشعر، وكان جوابه حين يُسأل عن السبب: هو أنّ مشاغل الحياة قد شغلته ولم يبق لديه الوقت الذي يسمح له بالتفرغ للشعر. وبقي بعيداً عن المنابر الأدبية معتزلاً حتى لاقى وجه ربه في العاشر من شباط عام 1992م».

قام الشاعر المرحوم "أحمد الراوي" بتصرف استغربه كل من عرفه، إذ أحرق جميع أشعاره، وأخبرنا بتفاصيل ذلك ابنه "حسين أحمد الراوي" فقال لنا: «من المعروف أن أبي وفي عام 1987 قام بإحراق جميع أعماله الشعرية، وقد كنت عائداً إلى المنزل ظهراً عندما شاهدته واقفاً أمام ركام من الأوراق المتلفة وهو يردد "ماذا أعطاني شعري؟ ماذا اسـتفدت منه؟"، ويقـول: "لا أريـد أن أواجـه الله شاعراً". ولكنني رغم رؤيتي لتلك الأوراق المحروقة بقيت أعلل نفسي بأنّ والدي لم يكن قد أحرق شعره، وأنّ ما شاهدته كان مجرد أوراق مهملة وأنّه لن يضحّي بشعره حقيقة، ولكن بعد وفاته بأسبوع فتحنا خزانته أنا وإخوتي وأحد أعمامي لنتأكد من الحقيقة، فكانت مفاجأتنا شديدة عندما اكتشفنا أنّه أحرق جميع أشعاره ولم يترك منها بيتاً واحداً حتى أنّ بعض المجلات التي نشرت له قصيدة كان قد قصّ القصيدة منها وأحرقها، إنّ كل ما جمعناه من شعره هو شتات وأجزاء من قصائد حفظتها الصدور أو التقطناها من بعض المجلات القديمة فقط».

ولأبناء الشاعر رغبة في جمع تراث والدهم رحمه الله، هذا ما أوضحه ابنه "مصطفى أحمد الراوي" بقوله: «بما أنّ والدي كان معروفاً بحرصه الشديد على ألا يطّلع أحد من أولاده أو غيرهم على شعره لكي لا يحفظه أحد، ولا يُعطي إلا نادراً نسخة من قصيدة نظمها، ولا يحتفظ إلا بالنسخة الأصلية ويبقيها عنده، فقد كان هذا الحرق هو نهاية شعره تماماً إلاّ شذرات من هنا وهناك، أو قصائد حصلنا عليها وبطرق عسيرة، ربّما كلفتنا السفر إلى مدن أخرى.

ونحن اليوم مطالبون ومن قبل أنفسنا أولاً بطباعة ما أمكننا جمعه من تراث والدنـا رحمـه الله، وإن لم نسـتطع جمعه كله، وكمـا يُقال "ما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه"، راجين من الله أن يوفقنا إلى حمل هذه الأمانة وأدائها بما يرضيه ويرضي الجميع».

وقد قال الشاعر "ماجد أحمد الراوي" في والده قصيدة بعنوان "عتاب" يعاتبه بعد وفاته على حرق جميع أعماله الشعرية، فيقول:

«ألا يا والِديْ جافاكَ هَمّ/ وعمَّكَ من غيوثٍ ما يَعمُّ

نَثرْتَ الدُّرَّ من كَفَيْكَ نثراً/ بأطرافِ الفلاةِ وقُلتَ: لُمُّوا

وقد جَشَّمْتَني تجميعَ شِعرٍ/ تناثرَ أيَّ آفاقٍ أأمُّ؟

فصِرتُ كَمَنْ يُحاوِلُ لَمَّ ماءٍ/ تَسرَّبَ في الرِّمالِ فلا يُلَمُّ

وذي عَذْلٍ يقولُ ألا مَنَعتُمْ/ أباكُمْ إذ بِفِعْلَتِهِ يَهمُّ؟

أعذالي وإنَّ العَذْلَ شَرٌّ/ ومَنْ بالغَيْبِ والآتي يُلِمُّ؟

ويعلمُ أنَّ أحداثَ اللَّيالي/ تُفاجِئهُ كمنْ يلقاهُ سَهْمُ

إذاً لحفظتُ شِعراً كان فيه/ معانٍ عنْ عُلا مُضرٍ تَنُمُّ

ومِنْ عدنانَ أو قحطانَ باد/ به للمجدِ أقمارٌ ونجمُ

قريضٌ مُعْرِقٌ بالمجدِ سامٍ/ له من يَعْرُبٍ خالٌ وعَمُّ

خيالٌ لا يساويهِ خيالٌ/ وتصويرٌ تقاصَرَ عنه وَهْمُ

كذا الله العليمُ أراد أمراً/ وعلمُ الله ما ساواهُ علمُ

وإنِّي عالمٌ ماذا بأمسي/ ولكنْ عن غدي أعمى أصمُّ».