الخشب... ما الشعور الذي ينتابك وأنت تقف أمامه، مجرد مادة قد تتحول بين يدي نجار ماهر إلى قطعة فنية أو جزء من أثاث المنزل... إن أردت أن تغير هذه الفكرة فما عليك إلا زيارة أحد المحلات المختصة بالنجارة العربية، أو مرافقتنا في هذه الزيارة التي قمنا بها إلى سوق النجارين وتحديداً إلى محل النجار "عبد الحميد فاكوش" لتجد أن الخشب اكتسى ملامح كائن بشري فصار يورق ويعتق ويفنى، وستتعرف كذلك على المهنة التي تشتهر بتمسك أهلها بها مما أطال عمرها مقارنةً بالمهن التراثية الأخرى إنها مهنة النجارة العربية.

في سوق النجارين داخل السوق "المقبي" أو ما يسمى بسوق "الظلام" التقينا به وهو واحد من خمسة استمروا بالعمل على النجارة العربية في سوق نجاري "دير الزور" وهي نسبة وإن بدت قليلة إلا أنها مثالية إن قارناها مع النسب في المهن الأخرى.

كما أسلفت يتميز الخشب عن أي مادة أخرى بشبهه بالإنسان فمنه الصلب الشامخ كالسنديان ومنه اللين المطواع، بعضه له عدة ألوان من الداخل كالمشمش وبعضه له لون واحد مثل شجر الغرب، كما أنك قد تجد من الخشب ما هو عديم الفائدة مثل شجر التين الذي يتفتت بمجرد اقترابه من النار ويتحول إلى "بودرة"، لا يمكن لمن يعيش مع الخشب إلا أن يكتسب من كل ذلك

عن سر تعلق ممتهنيها بها وهي الحرفة التي لا تزال رغم كل عوامل الانهيار تحاول الصمود أمام عجلة التغيير التي حولت الكثير من المهن إلى مجرد ذكرى تحدث قائلاً: «في كل المهن يمكن للمرء أن يتذكر بداية علاقته بالمادة التي يتعامل معها ولكن هذا الكلام لا ينطبق على النجار الذي كان والده نجاراً، ذاك لأن الحديث عن الخشب- هذه المادة النبيلة- يصبح زاداً يومياً، كنت أرافق والدي إلى المحل فنشأت بيني وبين الخشب علاقة تشبه علاقتي بأي كائن من لحم ودم، وهذا هو حال كل من وعى الحياة في محل والده وجده، توارث المهن بصورة عامة أعتقد له الدور الأكبر في استمرار المهنة فمعظم من استمروا جاؤوا إلى هذه المصلحة صغار في السن وتعلموا من الأب أو من الجد في بعض الأحيان، مما أدى إلى إتقان المهنة والتمسك بها كما حدث معي، هذا سبب من أسباب التعلق أما السبب الثاني فيتعلق بالخشب نفسه لأنه ليس مادة جامدة، فهو يؤخذ من الأشجار تلك الكائنات الملأى بالحياة والمسكونة بالوقار والتي حتى بعد قطعها وتحويلها إلى ألواح أشعر أنها ما تزال تمتلك شيئاً من الحس، على هذا الأساس يتعامل النجار الحقيقي مع الخشب».

عبد الحميد فاكوش من أقدم النجارين في الدير

وفيما يتعلق بتاريخ هذه المهنة تابع قائلاً: «مهنة النجارة العربية مهنة قديمة في "دير الزور" ووصل العاملون فيها عبر السنين إلى درجة عالية من الإتقان والابتكار وتطوير الأدوات المصنوعة بصورة تتوافق مع شروط البيئة وظروفها، وبشكل يتناسب مع خصوصية المنطقة ولم يتجمع النجارون في سوق واحدة إلا مع صدور قانون إنشاء الأسواق عام 1856 ويقع سوقهم في الجزء الشمالي الغربي من المدينة، مطلاً على شارع "الجسر"، لينتهي عند سوق الحبوب، وقد اعتمد ازدهار السوق بشكل أساسي على الأدوات المنزلية والأدوات المرتبطة بالزراعة.

وبدأ التراجع في المهنة في العقود الأخير، والسبب بالطبع هو ضآلة استخدام الخشب بعد ظهور العديد من المعادن الرخيصة وانتشارها كما أن استخدام الآلات الزراعية الحديثة قضى على الكثير الأدوات الزراعية التي يستعان بالنجار لصنعها مثل "الغراف" و"الناعورة" و"المحراث الروماني" وهذه كانت تشكل جزءاً كبيراً من نشاط النجارة.

بعض الأدوات التراثية في السوق

هذا من جهة ومن جهة أخرى الخشب نفسه كان له مصدران الأول يأتي من "تركيا" عن طريق الملاحة النهرية مثل خشب "التوت" و"الصنوبر" كما يستورد "الشوح" و"الزان" و"السّويد" والمصدر الثاني البساتين في "دير الزور" و"الحوايج" أي "الجزر النهرية" مثل خشب "التوت" و"المشمش" و"الغَرَب" و"الطرفاء"، وكانت تنقل "بالطوافة" أي "الطوف" أو بالسفن النهرية أما حالياً فقطع الأشجار في "الحوايج النهرية" ممنوع والخشب المستورد رديء، وعلى هذا فالجدوى الاقتصادية باتت قليلة وهذه المهن صارت تحتاج إلى دعم غير متوفر حالياً، السوق يتراجع يوماً بعد يوم، ولولا تعلق أصحاب هذه المهنة بها لاندثرت منذ زمن».

وفيما يتعلق بأهم القطع الخشبية التي كانت رائجة في سوق "الدير" أضاف: «القطع التي لها خصوصية في المنطقة كثيرة أهمها "العبَّارة" وهي بمثابة سرير للطفل، و"المخمر" ويستخدم لحفظ الخبز واللبن وأغراض أخرى، "الحيلان" ويستخدم في عملية الحصاد، "الغرّاف" ويستخدم لاستجرار المياه، "المسحاة" أداة تشبه المجرفة، "الجبب" ويستخدم للحراثة، ، "الخزام" لبيوت الشعر، "صندوق العرس" وكانت العروس تضع فيه جهاز عرسها، وهناك نجارون استمروا في العمل على هذه الأدوات بصورة غير تجارية، لأنهم اعتبروها جزءاً من إرث المدينة ولا يجور تشويهه أو المساس به».

وحول ما يمكن أن يكتسبه النجار من خلال تعامله خلال عقود طويلة مع الخشب أضاف: «كما أسلفت يتميز الخشب عن أي مادة أخرى بشبهه بالإنسان فمنه الصلب الشامخ كالسنديان ومنه اللين المطواع، بعضه له عدة ألوان من الداخل كالمشمش وبعضه له لون واحد مثل شجر الغرب، كما أنك قد تجد من الخشب ما هو عديم الفائدة مثل شجر التين الذي يتفتت بمجرد اقترابه من النار ويتحول إلى "بودرة"، لا يمكن لمن يعيش مع الخشب إلا أن يكتسب من كل ذلك».

أما عن الألم الذي يعيشه النجارون بسبب تراجع هذه المهنة فقد تابع قائلاً: «كثير من المحلات في سوق النجارين إما تحولت إلى تجارة التحف أو الأدوات المنزلية أو الأحذية ويؤلمني كثيراً التفكير بأنني سأضطر يوماً لفعل ذلك، فإن جئت لزيارة محلي هذا ولم تجدي الخشب و"المنشرة" فاعلمي أنه قرار اتخذته بصعوبة، وهذا حال كل نجار في السوق، إننا متعلقون بالخشب وأطلنا عمر المهنة إلى اليوم ولكن إلى متى يمكننا الاستمرار لا أعرف».

وعن النجارة العربية كجزء من التراث التقينا بالنجار الشاب "فراس العرفي" الذي ورث المهنة عن والده الذي بدوره ورثها عن جده فحدثنا قائلاً: «تتميز القطع الخشبية المنفذة بيد النجار أنها بالإضافة إلى استعمالها وجودتها هي تحفة فنية لأن النجار وضع كل خبرته فيها قطعةً... قطعةً، وهذا ما دفعني إلى ترك أي مجال عمل آخر والالتحاق بمحل والدي بالرغم من أن النجارين الكبار في السوق بدؤوا بإغلاق محلاتهم مكرهين، بقي الآن خمسة نجارين تحوي محلاتهم رائحة "الدير العتيق"، ولم يعد سراً أن قسماً كبيراً من تصريف الأدوات صار يعتمد على السياحة ويسوق على أنه قطع تراثية تؤخذ من هذا السوق كتذكار، معظم الأدوات في المحلات الخمسة موجودة في متحف "التقاليد الشعبية" القريب من السوق لذلك يشعر من يقف أمام أحدها وكأنها امتداد للمتحف».