في كل مرة كانت تمر طائرة حربية منخفضة فوق مدينة "سلمية".. كان أهلها يشيرون إليها ثم يقول معظمهم: «إنه أديب الجرف». كان للفتى القادم من هذه المدينة عشق اقتحام السحاب، ليخيّم رعباً على سلاح الجو الإسرائيلي في حرب تشرين 1973، فكانت الحصيلة أن أعفى 7 طائرات للعدو من الطيران مجدداً وإلى الأبد، حيث أسقطها فوق "بيروت" وفي الأراضي السورية، فاستحق لقب (بطل الجمهورية العربية السورية).

هو "أديب عجيب الجرف" من مواليد "سلمية" في 6/5/1946، وكما يقول: «ولدت يوم عيد الشهداء، وواجهت الشهادة، وتمنيتها في سبيل الدفاع عن وطني، لم أنلها، لكنني نلت تحرير النفس الأبية، تحرير الخوف من جيش ادعى أنه لا يقهر، قهرناه، حطمنا سلاح الجو الذي كان يفاخر به».

أصيبت طائرتي، وقفزت بالمظلة التي لم تسعفني كثيراً لتعرضها للحرق أيضاً، وسقطت على الأرض من ارتفاع 1300 متر، وتعرضت لخمسة وثلاثين كسراً في مناطق مختلفة من جسدي

هو عميد طيار حربي متقاعد، أب لثلاثة أبناء، أكبرهم "فراس" وهو طبيب أسنان، و"أسامة" مساعد مهندس إلكترون وابنته الوحيدة "لمى" صيدلانية.

الرئيس حافظ الأسد يقلده وسام الجمهورية

موقع eSyria التقى به فكان اللقاء يوم الثلاثاء 24/2/2009. وفي هذا اليوم ولد حفيده الذي أسموه "فراس أسامة أديب الجرف".

عن عالم الطيران، وما هو شعوره وهو يحلق فوق مدن وطنه، يقول: «إنه شيء فوق الوصف، أشبه بالخيال، أنظر إلى الأرض من أعلى، فأشاهد المدن كتلاً مبعثرة من (البيتون) الأوتسترادات أراها كخيط رفيع، كنت حينها أتساءل: (إذا كنت على ارتفاع 65 ألف قدم أشاهد كل شيء صغير، فكيف يرانا رب العالمين من عليائه)، عندما تحلق بطائرتك، يعني أنك تعيش الحلم، الخيال، والواقع، والكل مجتمعين يشكلون ذات الطيار التواق للحرية، للدفاع عن وطنه، وأهله، في السماء أنت إنسان مختلف».

وسام بطل الجمهورية

وفي العودة لطفولته يقول البطل "أديب الجرف": «كنت أسير من قريتي "الصفاوي" إلى مدرستي في "سلمية" قاطعاً مسافة ثماني كيلومترات في زمن ساعة وربع، هذا الزمن كان بالنسبة لي طبيعياً، عندما أصبحت طياراً وجدت نفسي أقطع ذات المسافة بثوان معدودة، وبسرعة تفوق سرعة الصوت، كنت أسرع من الرصاص. جميلة قريتي، ومدينتي "سلمية" وجميلة سورية، كانت وستبقى تستحق أن ندافع عنها، وسندافع عنها حتى ولو وخط الشيب رؤوسنا، مذ كنت طفلاً كنت أحلم بالطيران، ولو خيرت بأي شيء غير ذلك لما قبلت، عالمي الفضاء الرحب، وقد حققت ذلك».

إن كان يحب السماء، والتحليق عالياً، لماذا اختار الطيران الحربي، بدلاً من المدني، هنا يقول: «هناك فرق كبير بينهما، وأنا أقدر المهمة الصعبة والمسؤولية الكبيرة التي يتحملها الطيار المدني، ولكن من يخوض حرباً جوية يدرك وجهة نظري فأنا لا أشعر به إلا كسائق سيارة عادي لكنه يسير في السماء رغم صعوبة مهمته، فهي مهنة تسير حسب جداول، وطرق، أما أن تكون طياراً حربياً، فهذا يعني أنك تملك السماء، في طيارتي كنت أشعر بالحرية، وهذا كاف».

الرئيس الأسد يستقبل الطيار "أديب الجرف"

عن أجمل لحظة في تاريخه الحربي يقول: «أجمل لحظة في حياتي، وحياة كل إنسان، هي تحقيق الهدف الذي يسدد نحوه، وبالنسبة لي كانت لحظة ضغطتُ الزناد وأسقطتُ طائرة (الفانتوم) الإسرائيلية فوق "بيروت" وكانت ضمن رتل يتجه لقصف "دمشق" وأحبطنا مخططهم، وما يفكرون به».

عن رأيه بالطيار السوري وكيف كان في حرب تشرين التحريرية، يقول الطيار "أديب": «لا أخفيك أن البعض كان يعيش الوهم، وهو أن الطيران السوري لا يستطيع مجابهة (الفانتوم) الأمريكية، وكانت أحدث طائرة حربية في ذلك الوقت، عندما انطلقت المعركة بإرادة سورية، شعرت كم نحن أقوياء، لا أستطيع وصف العدو بالجبان، ولن أقول أنه ذو قوة خارقة لا تقهر كما اعتقد العرب لسنوات، فقط سأقول عبارة تختصر حقيقة ما صنعناه في حرب تشرين: (عدونا جبان بقدر ما نحن شجعان)».

(وداعاً أيتها الحياة، أيتها الأرض، أيها الوطن) عبارة رددها لحظة بدء الحرب، وهنا يتابع قائلاً: «عندما تشترك في حرب، يعني أنك معرض لكل الاحتمالات، والموت أولها، لكنني كنت أطلب الموت، فوهبت لي الحياة، كنت ورفاقي في سلاح الجو نتبع أسلوب الدخول الصاعق، وهذا ما كان يربك الطيار الإسرائيلي، كنا نقرأ في عيونهم هلعهم، وارتباكهم، مما اضطرهم للهرب، يومها تحررت إرادة المقاتل العربي».

وعن الطائرات التي أسقطها يقول: «كل طائرة أسقطتها مسجلة على شريط فيلم سينمائي موجود في طائرتي، طائرتان من نوع (ميراج) فرنسية الصنع، وخمس طائرات فانتوم F4 أسقطت اثنتين منهما فوق "الرملة البيضا" في "بيروت" والثانية على طريق (بيروت ـ بكفيّا) وطائرة (الفانتوم) تعني بالعربية (الشبح أو السراب) لكن الطيار السوري كان الإعصار الذي بدد هذا السراب».

وعن إستراتيجية الطيار السوري في حرب تشرين يقول العميد "أديب الجرف": «استطاع المقاتل السوري أن ينتصر في الحرب، ولم يأت هذا النصر صدفة، فلا مكان للحظ في المعركة، والشيء الأساسي هو التدريب الجيد، الاستعداد المتين، تعاون رفاق السلاح، فضلاً عن الاستخدام الجيد والصحيح للسلاح، هذه هي إستراتيجية المقاتل السوري التي صنعت النصر».

عن إصابته في المعركة يقول: «أصيبت طائرتي، وقفزت بالمظلة التي لم تسعفني كثيراً لتعرضها للحرق أيضاً، وسقطت على الأرض من ارتفاع 1300 متر، وتعرضت لخمسة وثلاثين كسراً في مناطق مختلفة من جسدي».

وعن تكريمه يقول: «القرار السليم أكثر بطولة، وأكثر خطورة من المعركة ذاتها، وقرار الرئيس الخالد "حافظ الأسد" بإعلان الحرب على العدو كان البطولة التي لا تجاريها بطولة أخرى، وكنا نحن عناصر الجيش السوري عند حسن ظن هذا القرار البطولي، ومن هنا جاء النصر، وجاء تكريمنا من الرئيس الخالد، وهو الذي وصفنا بالشهداء الأحياء، ووسام بطل الجمهورية فخر أحمله معي لأولادي، وأحفادي، ومدينتي، ووطني. ما أروع أن يقلدك قائد الوطن هذا الوسام».

عن مرحلة التقاعد يقول: «الموت وحده يعني تقاعد، لا أعرف الكلل، أمارس الرياضة يومياً وبلا انقطاع، أعيش في مزرعتي حيث أراقب أكبر قدر من السماء، وأنا الذي اعتدت أن أشق عباب السحاب يوماً، أتواصل مع رفاق السلاح، نتهاتف، نتواصل، نتذكر الأيام الخوالي، لي هواية الرسم (بالرصاص والفحم) أعيش اليوم في مدينتي "سلمية" وفي مزرعتي مزارعاً نشيطاً، كما أنني أنجزت كتابة مذكراتي عن حرب تشرين التحريرية، ويقع الكتاب في مئتي صفحة، وهي لم تنشر بعد».

هذا هو "أديب عجيب الجرف" اليوم يحرث الأرض كي تعطي ثماراً بطعم الانتصار، وهو الذي بقي لسنين طويلة يحميها من السماء.