في اليوم الأول من العام 1977 والعالم كله يحتفل بقدوم عام جديد علّه يأتي بالبشر والخير، غير أن يداً غادرة صوبت النار على من ترك الديار ليؤمن للجار الأمن والسلام، فسقط "علي" شهيداً على أرض "بيروت" ليحمل في نعش الشهادة، موشى ببيرق الوطن الغالي سورية، ويوارى الثرى في مدينته التي عشقها "سلمية".

موقع eSyria وتكريماً للشهيد والشهداء التقت عائلة الشهيد "علي جميل عيسي" في يوم الثلاثاء 6 تشرين الأول 2009 في ذكرى حرب تشرين التحريرية، لنكرم هذا الشهيد في يوم المجد والبطولة.

سهمٌ أصابك في الضلوع خيانةً/ فهويت تحتضن التراب عميدا/ كالنسر أرهقه الصعودا/ وأقسمت عيناه إلا أن يموت صعودا

فالتقينا الأم "تمانيا حسن الضحاك" التي أعربت عن مكنون داخلها، وهي الثكلى بفقيد من نوع خاص، فقالت: «يحاولون ألا يذكر اسمه أمامي لأنهم يخافون عليّ، ولكنهم لا يعرفون أنني لم أنسه يوماً حتى يذكرني به أحد ما من خلال حديث ما».

الشهيد "علي جميل عيسي"

وأضافت وهي تنظر إلى صور أصبحت في أرشيف الذكريات: «كان جميلاً جداً، كل أولادي مثله لكنه أجملهم، ليس لأنه غاب عني، لكنني لا أستطيع ولم أستطع يوماً أن تذهب صورته من مخيلتي، ذنبه فقط أنه ذهب مع رفاقه ليدفعوا الأذى عن شعب لبنان، أحمد الله أنه نال الشهادة دفاعاً وحقناً لدماء إخوتنا في لبنان، لكن للأسف هدروا دمه، ما أصعب هذه المفارقة».

ثم التقينا المهندس "مُغير جميل عيسي" وهو شقيق الشهيد، فقدم لمحة عن أخيه فقال: «ولد أخي "علي" في العام 1951 درس الابتدائية في مدرسة "عبد الرحمن الكواكبي" والمرحلة الإعدادية في مدرسة "قتيبة بن مسلم الباهلي"، وأكمل تعليمه الثانوي في مدرسة "علي بن أبي طالب (ع)"، ثم التحق بالكلية الحربية وتخرج منها ضابطاً برتبة "ملازم"».

المهندس "مغير عيسي" شقيق الشهيد

وتابع، قائلاً: «كان من بين طلائع الجيش السوري الذي دخل إلى لبنان بطلب من الرئيس اللبناني "سليمان فرنجية" لحقن دماء المتحاربين في لبنان، وقد اسندت إليه قيادة كتيبة "راجمات صواريخ" في "مطار بيروت"، ونال الشهادة على أرضها في اليوم الأول من العام 1977 فكان هدية مرّة، وكان قبل ذلك قد تعرض لطلق نهاري في رأسه أسعف على إثرها إلى مشفى "حرستا" لكنه سرعان ما عاد إلى لبنان قبل أن ينهي مرحلة الاستشفاء».

وأضاف: «ربما استحق أخي الشهادة لأنه لم يكن يوماً طامعاً بالحياة، فقد كان معطاءً، كريماً، ما بجيبه ليس له، وهذا ليس مديحاً إنما ما نقل إلينا من رفاقه الذين ما زالوا على قيد الحياة».

صورة من أرشيف العائلة.. والشهيد طفلاً

وتقول والدته: «أنا سعيدة جداً لأنهم أطلقوا اسمه على إحدى مدارس "سلمية" لذلك فإنه لم يمت إطلاقاً، وهو يستحق مثل هذا التكريم، وتكون سعادتي كبيرة، وطالبات المدرسة التي تحمل اسمه يمرون من أمام دار الشهيد نفسه».

قال فيه شاعر سلمية، الراحل "أنور الجندي" في بيتين من الشعر رثاءً له: «سهمٌ أصابك في الضلوع خيانةً/ فهويت تحتضن التراب عميدا/ كالنسر أرهقه الصعودا/ وأقسمت عيناه إلا أن يموت صعودا».

وفي رسالة بعثها الفيلسوف الدكتور "إبراهيم فاضل" إلى والدة الشهيد، يقول فيها: «أختي "أم علي" مع احترامي وتمنياتي الطيبة، لك ولأبنائك الأشداء، ولأخوتك الأحباء، إلى أهل الشهيد "علي جميل عيسي" الذي لم أقل قصيدة في أحد إلاّ فيه، حيث وقف شامخاً أمام تحدي المال، وأصحابه، وأربابه.... أخوكِ المعتز بأبنائِكِ "إبراهيم فاضل"».

وفي مقدمة قصيدته "عليّ- لبنان 1/1/1977" كتب الدكتور "إبراهيم" حادثة حدّثه عنها الشهيد "علي"، فقال "الفاضل": «قبل أسبوع من اغتياله، كان قد أخبرني بتمكنه من نفسه أمام بريق الذهب، وأنه سيكون أصيلاً أصالة أشجار "كور الزهور" (سلمية)، أم "المهدية"، وجدة "القاهرة"، ولهذا رأيت أن أحكي للأجيال الصاعدة قصة شاب رأى لبنان بلده، بل بيته، بل كيانه، ولا يَعُزّ ُ القُربانُ أمام "الحال"، لهذا كتبت قصيدة "عليّ- لبنان" أو "لبنان- علي"».

يقول الدكتور "إبراهيم فاضل" في القصيدة آنفة الذكر: «يا أرز لبنان لا كانوا ولا رحلوا/ من أنزلوا فيك جرحاً ليس يندمل/ ألقوا عليك أزاهير الوفاء، وما/ بين الضلوع سوى الطماع تعتمل/ فتحت صدرك للناجين من هرب/ حتى تلون من أهدابك الأمل/ أتوك من كل صقع لا يؤلفهم/ غير الكلام عن الأمن الذي قتلوا/ كل أتاك وفي عقبيه طارده/ والجمر في حدق الخصمين يشتعل/ فالموت مات، وبيعت كل أسهمه/ والرعب من رعبه في عينه حول/ يا أرز لبنان، ماذا لو أعدت لنا/ من كان عنك رزايا الفتك يحتمل/ قتله أنتَ.. لا ما أنت من بشرٍ/ أضاعه من بقايا وعيه الزّلل/ تربص النذل، والرشاش في يده/ وللدنانير في أثوابه زجل/ يقيم للمال رقصاً في جرائمه/ حتى يكاد على قرشين ينفتل/ عليّ.. لا تأمنِ الشيطان تمهله/ وللشياطين في أوطانهم نُزُلُ/ ومال صرح "علي" وهو يمنحكم/ غفرانه مثلما لا تحقد الرسل/ وصاح لبنان: واذلاّه، لست أباً / للغادر النذل، فابْرأْ منهُ، يا جبل/ وفي سلمية أكبادٌ مجرحة/ كأن "بيروت" في أجفانها مُقَلُ/ تبكي عليّاً وقد غادر الزمان به/ وللشباب على زنديه مقتبل/ سمِعتُ "بيروتَ" في تأبينه هتفت:/ يكفي "سلمية" مجداً أنكَ البطلُ».

ويبقى الشهيد "علي جميل عيسي" في ذاكرة الأجيال المتعاقبة، تتناقل سيرة البطل الذي لم يمت، بل ينظر إلينا من عليائه، وليس لنا من قول الصدق سوى ما قاله الله (عز وجل): (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون).