أجمع المؤرخون الآثاريون أن عهد الرومان في بلاد الشام كان غنياً ببناء العديد من القلاع في حوالي عام 44 ق م ، وكان أشهرها ما توضع على الجبال الغربية بقصد تأمين مواصلاتهم عبرها من الساحل السوري إلى الداخل، وحتى لا تكون هذه الجبال موئلاً للعصاة وقطاع الطرق، وأشهر هذه القلاع وهي: "قلعة الحصن" و"قلعة عكار" و"قلعة الخوابي" و"قلعة القدموس" و"برج المرقب" و"برج يحمور" و"قلعة المينقة" وقلعة "صلاح الدين" و"قلعة مصياف" و"برج سليمان".

وهكذا كانت قلعة "مصياف" بين القلاع المبنية في العهد الروماني واستمراراً للعهد البيزنطي، ويؤكد المستشرق "فان برشم" بناءها في العهد "الروماني- البيزنطي" في كتاباته. كما يؤكد "فولفغانع ميلر-فينر" بما كتبه (أن البيزنطيين وجدوا "قلعة مصياف" قائمة من العهد الروماني الأسبق عندما ركزوا وجودهم في بلاد الشام معتمدين على مراكز عسكرية كالقلاع والحصون).

تبدى هذا الاهتمام لأسباب عديدة منها: جعل القلعة عاصمة لقلاع الجبال كلها ومركزاً للقيادة والإدارة جعل في "مصياف" سوقاً رئيساً لتموين القلاع والتجارة الداخلية والخارجية

هذا ما حدثنا به الباحث والأديب "محمد عزوز" عندما التقاه موقع eSyria يوم الاثنين \6\4\2009 ليتابع حديثه عمّا بناه الرومان والبيزنطيون من قلعة "مصياف" قائلاً: «كما ورد في الدراسات الأثرية لقلعة "مصياف"، نتبين أن الطابقين السفليين المتوضعين على القاعدة الصخرية مباشرة هما من بناء الرومان، كما أن الأبراج الدائرية حول النتوء الصخري تعاصر هذا العهد وتستمر في تواجدها إلى العهد البيزنطي حتى عام \550م.»

بوابة القلعة

ويعتبر العهد "البيزنطي" عهد تدعيم لوجود القلاع واستمرارها نظراً للإستراتيجية التي اعتمدتها الدولة البيزنطية بعد الانفصال عن "روما" الأم باتجاهها إلى تدعيم وجودها في آسيا الصغرى (تركية) وفي "بلاد الشام" وحتى "مصر" فاهتمت بالقلاع وزاد من اهتمامها محاولة السيطرة على "البحر الأبيض المتوسط" بجزأيه الأوسط والشرقي وامتداده في البر داخل البر "الآسيوي والأفريقي والأوروبي" بمراكز دفاعية هجومية كانت القلاع مادتها الأولى.

وعن مدى اهتمام "البيزنطيين" بوجود القلاع أجاب: «نتبين مدى اهتمام "البيزنطيين" بوجود القلاع المنتشرة على سواحل "البحر الأبيض المتوسط" وامتداداً إلى الداخل، حيث المواقع الإستراتيجية العسكرية والتجارية، وتتميز نماذج البناء في هذا العهد بوجود الأقواس والعقود المنحنية والرباعية وذلك في الأبراج المحيطة بالقلاع والبوابة كما في "قلعة مصياف".

باب داخلي

كما اهتم "البيزنطيون" بتدعيم القلاع بالصيانة والبناء مما جعل عملها هذا امتداداً للعهد الروماني الأسبق، ومن هنا نالت "قلعة مصياف" الاهتمام الزائد نظراً لموقعها المتميز وإستراتيجيتها عسكرياً وتجارياً لوقوعها على شبكة من الطرق في جميع الاتجاهات».

وعن أعمال الترميم التي طرأت على بناء القلعة في تلك العصور قال: «من الملاحظ أن ما بناه الرومان والبيزنطيون قد تداخلت فيه العديد من الترميمات التي جاءت في العهد الإسلامي نظراً لتعاقب الزلازل، وتهديم الحواشي السائبة غير المرتكزة على القاعدة الصخرية التي بنيت عليها القلعة أصلاً، وجاءت هذه الترميمات مخالفة لفن البناء الروماني، كما أن هذه الترميمات تعددت في أنواعها وأساليب بنائها حسب العصور المتعاقبة التي كان يقوم بها ساكنو القلعة للمحافظة عليها قوية يمكن الالتجاء إليها للاحتماء فيها من الأخطار الوافدة إبان العصور المتلاحقة.

الباحث محمد عزوز

ومن المؤكد أن جزأين أساسيين من قلعة "مصياف" بنيا في العهد الروماني وامتداده العهد البيزنطي وهما:

1- الأقبية السفلية المستندة على القاعدة الصخرية

2- البناء الخارجي المستند إلى حافة النتوء الصخري، والذي يحتوي على الأبراج الخارجية المتصلة بالبوابة والأقبية الشرقي والغربي والممرات وسور الشرفة الأولى الذي لم يبق منه إلا الجزء المتوضع قبالة بوابة القلعة من الجهة الجنوبية، وكذلك سور الشرفة الثانية ومن الملاحظ أن بوابة القلعة قد رممت في السبعينيات من القرن الماضي بإشراف المهندس "ربيع دهمان" الذي ثبت فيها مرامي السهام العليا وكذلك مساقط النفط المحروق والكلس المطفأ».

وعن مراحل تطور القلعة في العهد الإسلامي حدّثنا الباحث "محمد عزوز" قائلاً: «جاء العهد الإسلامي بعد احتلال العرب المسلمين لبلاد الشام وتوسعهم إلى مناطق واسعة من "آسيا" و"إفريقية"، ولم يهتم العرب المسلمون في البدء بالقلاع ولم يولوها رعاية باعتبارهم تجاوزوها بفتوحاتهم، ولم تشكل أهمية خاصة بدولهم المتعاقبة من العهد "الراشدي" ثم "الأموي"، ولكن في العهد "العباسي" بعد الخليفة "المعتصم" في القرن الثاني للهجرة ظهرت بوادر الضعف في الدولة "العباسية" مما أدى لانسلاخ أجزاء عن جسم الدولة الأمر الذي وجه رؤساء دول الطوائف المنقطعة عن الدولة "العباسية" للعودة إلى المراكز العسكرية المحصنة، فظهرت الاهتمامات بالقلاع وتحصيناتها، وذلك ما أورده الباحث التاريخي الأستاذ "ميشيل لباد" عن قلعة "مصياف" قوله: كانت قلعة مصياف بعد الفتح العربي الإسلامي تابعة لمدينة "حمص" خلال الحكم "الأموي"، لكنها تبعت الطولونيين في "مصر" خلال حكم "أحمد بن طولون"، ومن ثم ظهرت أهميتها في عهد "الإخشيديين والحمدانيين" إذ احتدمت المنافسات من القوى الحاكمة في بلاد الشام ومصر مما أعاد لقلعة "مصياف" أهميتها الإستراتيجية».

وعن أهم من امتلك قلعة "مصياف" أجاب: «امتلكها "الحمدانيون" سنة \357هـ – 967م\ في عهد الأمير "سيف الدولة الحمداني"، ولكنها لم تستمر تحت سيطرتهم إذ لم يستطع الأمراء الحمدانيون الضعاف الاحتفاظ بها أمام مطامع البيزنطيين بالتوسع بقيادة "عقفور فوكاس" الذي عقد مع الأمير "سعد الدولة الحمداني" معاهدة نصت على نقل السلطة في قلعة "مصياف" إلى "البيزنطيين" عام \359هـ – 969م \، وأصبح "البيزنطيون" يجاورون "الفاطميين" الذين احتلوا المناطق الجنوبية من بلاد الشام، ولما توسع الفاطميون شمالاً باتجاه مدينة "حلب" زمن الخليفة الفاطمي "المعز لدين الله" انتقلت "مصياف" من الحكم البيزنطي إلى الحكم الفاطمي.

ولما أنشأ "بنو مرداس" إمارتهم في "حلب" امتد سلطانهم لاحتواء "قلعة مصياف" حتى سنة\ 420هـ – 1029م\ حيث استعادها الفاطميون، ثم انتقلت تبعيتها إلى "بني منقذ" وإمارتهم الناشئة في قلعة "شيزر" سنة \474هـ – 1081م\ نتيجة توسعهم وسط بلاد الشام، فأصبحت "مصياف" إمارة تابعة لهم، وكان أهم ما خاف منه الأمراء المنقذيون حكام "شيزر" هو هجوم الصليبيين على القلعة إبان مرورهم من قربها عام \492هـ – 1098م\، ولكن أميراً قدم للصليبيين أموالاً ومؤونة وأرشدهم على الطريق التي توصلهم إلى بيت المقدس مروراً بقلعة الحصن (الأكراد) ومنها إلى طرابلس الشام.

وعندما قامت إمارة الاسماعيليين في قلاع الجبال الغربية وملكوا قلاع "الكهف" و"القدموس" و"الخوابي" في عهد الداعي الاسماعيلي "أبو محمد"، إذ اتجه لتملك "قلعة مصياف" عام \535هـ – 1140م\ مستفيداً من تجمع الاسماعيليين بعد نكبات متلاحقة في كل من مدينة "حلب" و"دمشق" إبان الحكم السلجوقي لبلاد الشام».

وعن سبب اهتمام الاسماعيليين بقلعة "مصياف" قال: «كان اهتمام الداعي "أبي محمد" بتحصين "قلعة مصياف" لتتمكن من صد الهجوم الصليبي المرتقب وبخاصة بعد تملكهم قلعة "بعرين" بواسطة قوات الهسبارتية الطامعة في التوسع شرقي الجبال الغربية بما فيها مصادر اقتصادية وقلاع محصنة من أمثال "قلعة مصياف" و"قلعة الحصن"».

وعن اهتمام "سنان راشد الدين" بقلعة "مصياف" أجاب: «تبدى هذا الاهتمام لأسباب عديدة منها:

جعل القلعة عاصمة لقلاع الجبال كلها ومركزاً للقيادة والإدارة

جعل في "مصياف" سوقاً رئيساً لتموين القلاع والتجارة الداخلية والخارجية».

وعن أعمال "سنان راشد الدين" العمرانية في القلعة حدّثنا قائلاً: «تتجلى أعمال "سنان" ببنائه الطابق الخامس وشرفته العليا ويؤكد "نصر بن جوش" في كتابه (مناقب سنان راشد الدين) أن الأجزاء العليا من قلعة "مصياف" بناها "سنان" وجعلها على مجموعتين: جنوبية وشمالية ولكل منها باب منفصل عن الآخر، وتتألف المجموعة الجنوبية من أبراج مرتفعة وغرف متصلة فيما بينها بأبواب وممرات تشكل كلها مجموعة معمارية متكاملة، وتتصل بالشرفة العليا (السطح) بواسطة ممر مزود بدرج يوصل إلى الشرفة العليا، ويدخل إلى هذه المجموعة بواسطة باب زينت عتبته بكتابات إسلامية عربية كوفية حفرت مؤخراً وهي كالتالي: (عمر هذا المكان المبارك المعظم الشاه، شاه الملوك العلى في دوام عز مولانا كمال الدين والدنيا الحسن بن مسعود) سنة \624هـ 1226م.\

أما المجموعة الشمالية فهي تتألف من باب يتصل بدرج منحوت في الأرضية التي بني بناء كامل عليها، والتي تؤلف مجموعة غرف متصلة بعضها ببعض وبينها ممر يوصل إليها.

ويشكل بناء هاتين المجموعتين معاً الطابق الخامس من القلعة، وطراز بنائه مملوكي إسلامي، ولما كان يتوضع البناء بأكمله فوق النتوء الصخري الذي بنيت القلعة حوله، فإن الزلازل المتوالية أصابت هذا الجزء بتهديم مريع أتى على أجزاء واسعة من البناء.

أما الشرفة العليا وهي عبارة عن كامل سقفي المجموعتين، وهي محاطة بسور له فتحات خاصة بالمنجنيقات، وقد تهدم معظم هذا السور فلم يبق فيه سوى القليل. ويظهر على الشرفة قاعدة بناء يعتقد أنه برج الحمام الزاجل الذي كان الاسماعيليون المقيمون في القلاع يعتمدونه وسيلة للاتصالات والإخبار بينهم مما يسهل المعرفة بالأخبار بشكل سريع».

وعن وصف مدخل القلعة أجاب: «للقلعة مدخل من الجهة الجنوبية الشرقية وهي الجهة الأضعف في القاعدة الصخرية من حيث إمكانية الوصول ويبدو أنه مبني على مراحل أما وضعه الحالي فيأخذ شكلاً منكسراً حيث يصعد إليه بدرج كان يتقدم ببرج متقدم لزيادة القدرة الدفاعية ثم يدخل إلى بهو ينكس عبر باب يفضي إلى ممر يصل إلى الطابق الأول من القلعة ودرج يقود إلى الداخل، وقد زود الباب ببرج مؤلف من ثلاث طبقات وشرفة طلاقات في أعلى الباب لحمايته.

أما الطابق الثاني في القلعة فيشمل عدداً من الأقبية المبنية فوق سطح الطابق الأول والجزء السفلي من الأبراج الداخلية والمؤلفة بأغلبها من الطابقين الثاني والثالث».

وعن الأبراج الخارجية والقسم الداخلي أجاب: «إن أبراج القلعة غير متشابهة فبعضها له شكل مربع يرتفع إلى ثلاث طبقات وبعضها مضلع ومرامي السهام في القلعة ذات صفات ومقاسات متعددة حيث يظهر جلياً أعمال التدعيم والتقوية التي طرأت على هذه التحصينات، ومن الجهة الشمالية هناك برجان مربعان نحتت القاعدة الصخرية تحتهما، بما يتناسب مع تصميمها وهما يحميان باباً صغيراً يؤدي إلى القلعة والأسوار الخارجية والأبراج مزودة بشرفات لرمي السهام في أكثر من مكان. أما القسم الداخلي فقد بني اعتماداً على مخطط القلعة البيزنطية التي يعود تاريخها إلى نهاية القرن العاشر الميلادي حيث تم تحويره وتقوية الجدران فارتفعت الأبراج الداخلية.

ويحوي هذا الجزء الطابق الرابع من القلعة والأول من هذا الجزء وهو بني على أعلى جزء من الكتلة الصخرية حيث توجد أبراج تطل على الممرات الداخلية للقلعة ويحوي عدداً من الغرف والمستودعات وقد تم تغيير مواصفاته؛ فزود بمدخل يناسب الفترة الأيوبية بشكل منكسر يفضي إلى ما يفيد أن يكون الطابق الأول من قصر القائد وقد أرخت كتابة الباب هذه الإضافة في عام \1228 م.

أما الجزء الشمالي الغربي من القلعة البيزنطية والذي يتألف من ثلاثة أبراج مربعة فقد تداخلت مع السور الخارجي للقلعة وشكلت نواة لأبراج مضلعة ثلاثة ذات الصبغة المعمارية المملوكية.

أما ما بقي من الطابق الخامس فهي أجزاء من الجدران العالية».

وعن أعمال الترميم التي تجري مؤخراً في القلعة أجاب: «انتهت مؤخراً مؤسسة "الآغا خان" للثقافة وبالتنسيق مع المديرية العامة للآثار والمتاحف من أعمال الترميم والحفاظ على قلعة "مصياف" ووضع برنامج عمل يهدف إلى تنفيذ بنية تحتية سياحية لزوار القلعة من أجل الحصول على أكثر ما يمكن من الفائدة من خلال زيارتهم لها وتتابع مؤسسة "الآغا خان" حالياً في وضع خطة عمل لإضافة المزيد من اللمسات الحضارية في عدد من الجوانب الأثرية في المدينة بغية أن تأخذ مدينة "مصياف" وجهها الحضاري المشرق ليتقدم ويصبح عامل جذب سياحي هام ينعكس إيجاباً على الحركة السياحية في المدينة التي تحتاج دائماً إلى دعم من أجل تنميتها اقتصادياً واجتماعياً».