هو الزمن الذي أخذ بين ثناياه الكثير مما صنع أسلافنا، لكن الذاكرة تأبى أن تنسى ما تربَّت عليه، فلكل زمانٍ نكهةٌ ولون لا تزال ريحتها تفوح من كبار السن، فالعصيدة أكلة خَبَتْ جذوتها بعد أن كانت الحامل الأول لأهل الريف، إلا أن سيرتها إذا طرقت مسامع من عاشوا عليها، قرأت الحسرة في عيونهم على ليالٍ خلت.

موقع eHasakeh عاد مع السيدة "عنود أحمد العكلة" ما ينوف عن تسعة عقود إلى الوراء، لتُحيي أكلةً اندثرت من على الموائد فقالت: «لطالما كنت أسمع والدتي وهي تتحدث عن العصيدة، فكانت تصف لنا كيف تُزرع الذرة البيضاء ثم تُحصد بالأيدي، بعدها تُجفف وتطحن بالرحاة الحجرية، من ثم تخزن ليأكلوا منها بشكل دوري، أنا بدوري تعلمت منها طريقة الصناعة الأصلية التي كان يُعمل بها آنذاك».

لطالما كنت أسمع والدتي وهي تتحدث عن العصيدة، فكانت تصف لنا كيف تُزرع الذرة البيضاء ثم تُحصد بالأيدي، بعدها تُجفف وتطحن بالرحاة الحجرية، من ثم تخزن ليأكلوا منها بشكل دوري، أنا بدوري تعلمت منها طريقة الصناعة الأصلية التي كان يُعمل بها آنذاك

وعن طريقة صناعة "العصيدة" تقول عنود: «في البداية يتم طحن الذرة البيضاء بواسطة الرحاة، ثم نقوم بتذريتها /تنقيتها/ على الهواء لتخرج منها القشور، يوضع قدرٌ فيه ماء على النار ويسخن حتى يصبح فاتراً، ثم نقوم بإضافة الذرة المطحونة تدريجياً مع التحريك، نستمر على هذا الحال حتى ننتهي من وضع كامل الكمية في الماء، ولا يضاف لهذه الوجبة إلا الملح فقط، طبعاً لا نتوقف عن التحريك أبداً، ونستمر بالتحريك بواسطة عودٍ طويل من الخشب، فيما بعد يبدأ الماء بالتبخر وتصبح العصيدة لزجة وتبدأ الفقاعات الكثيفة تظهر على السطح، نقوم هنا بسكبها في صاج من الحديد وتسويتها لتأخذ شكلها النهائي».

التحريك ضروري لكي لا تحترق الطبخة

تضيف "العكلة": «نقوم بإشعال الحطب حتى يصبح جمراً، ثم نقوم بتغطية الصاج بصاج آخر ونضعه على الجمر، ثم نغمر الوعاء الذي يحتوي على العصيدة بالجمر من الأعلى والأسفل، ويترك لمدة ساعة أو أكثر لتصبح جاهزة للأكل، وسابقاً كانت المونة في الغالب قليلة عند الناس لذلك كانت العصيدة رقيقة لقلة الذرة الموضوعة في الماء، وطلباً وراء زيادة المونة في الوجة كان الناس يخرجون للبرية ويجنون "العوصلان" وهو نبتة برية تشبه البصل في جزئه السفلي، تقطع العوصلان وتضاف إلى العصيدة لتزيد من كثافتها، وبعد أن ينضج من مرحلة الشوي يأكله الناس لوحده أو مع "الخاثر" /اللبن/».

السيدة "نوفة حسين الرجا" قالت: «أنا لا أعرفها ولم أع الزمن الذي كانت تطبخ به، لكن زوجي كان يحدثني دائماً عن العصيدة والتي تسمى "الگرصة"، كانوا يعيشون عليها بشكل يومي، حيث لم يكن القمح موفر في ذلك الوقت، حيث يقوم الناس بزراعة الذرة البيضاء التي تفي بحاجتهم، عند الحصاد يجمعونها ويخزنونها ثم يأكلون منها على مدار العام، لكنني لم أتذوقها في عمري نظراً لقدم هذه الأكلة، أما زوجي فقد تربى عليها كما قال لي حيث كادت هذه الوجبة أن تكون الوحيدة في اليوم والليلة».

في نهاية مرحلة الطهو

السيد "عيد خلف الهيجل" 76 عاما قال: «كنا في السابق نزرع الأرض بالذرة البيضاء فتنمو ليصبح ارتفاعها ما يقرب من ثلاثة أمتار، ثم نقوم بحصادها عندما تنضج وتصبح على شكل عرانيص، نفرشها لعدة أيام تحت أشعة الشمس حتى تجف، ثم نأتي بالحمير ونجعلها تسير فوقها لعدة ساعات ذهاباً وإياباً، حتى تنفصل حبة الذرة عن "العرنوص"، نقوم بجمع الحبوب ونذرِّيها على الهواء لتتخلص من الشوائب، بعد ذلك نخزنها في أجفار*، وفي كل يوم تخرج والدتي كمية من الذرة وتطحنها بالرحاة، بعد ذلك تقوم بتذريتها على الهواء للتخلص من قشور الذرة، وتطبخها على الحطب حتى تلجِن**، بعد ذلك توضع في صاج وتغطى بصاج آخر وتدفن في جمرية متقدة تماماً، تترك ساعة ونصف أو نحو ذلك ثم تخرجها لتصبح جاهزة للأكل، كان الناس غالباً ما يأكلونها قبل أن توضع في الجمرية خصوصاً إذا كانوا جياع، فيصنع الواحد منهم جلموداً يضعه في فمه، أما إذا كانوا أكثر صبراً فينتظرون ليأكلونها من الصاج قبل أن توضع على المائدة».

يختم "الهيجل": «تسمى هذه الأكلة بالعصيدة إذا لم توضع في الجمر، أما بعد أن توضع في الجمر وتنضج تسمى "الگرصة"، ربَّت هذه الوجبة الرجال الذين لم يكونوا يعرفون المرض أو الكسل، حتى أن بعض الناس عندما كانوا يلعبون "الحورة"* كانوا ينتخون بهذه الأكلة، فيقول اللاعب "گرصة وذرة وأنا أخو سالمة"، أيضاً عندما كنا نرحل من مكان وننزل في آخر كانت والدتي تصنع "السويچة"، وهي الفشار في هذا اليوم، فكنا نضع منها فرج الثوب ونأكل منها حتى نشبع، كانت "العصيدة تؤكل لوحدها أو مع السمن العربي "البلدي"، أو مع اللبن حيث نقوم بتكسير حواف "الگرصة" ونضعها في اللبن، ثم نأكلها كما يؤكل الثرود».

مرحلة شوي الوجبة على الحطب

  • أجفار: جمع جفر والجفر هو حفرة في الأرض يتم التخزين فيها لمدة طويلة.
  • ** تلجِن: من لَجِنَ وتطلق على الحساء عندما يصبح كثيفاً نتيجة الطهو.

    *** الگرصة: مذكَّرُها گرص وهو نفسه القرص وهو كنايةٌ عن الدائرة لكنه يلفظ على هذا النحو في منطقة الجزيرة.

    **** الحورة: لعبة صيد الحجارة بالحجارة تُلعب من قبيل التسلية في الأرياف سابقاً، وهي ما زالت موجود لهذا اليوم وتسمى "لطش".