يرجح ولادتها في العام 166 م أو 170 م "بأميسا"، في مدينة حمص في سورية، لعائلة مهمة في المدينة تتوارث كهنوت عبادة الإله إل اجبل (أيل الجبل) حيث كان والدها، جوليوس "باسيان، الكاهن الأعظم لهذه العبادة في حمص وفي الامبراطورية الرومانية.

طفلة صغيرة ولدت لكاهن معبد الشمس خبأت لسورية فخراً عظيماً، وفتحت أمامها بوابة الإمبراطورية الرومانية بل العالم، حيث أصبحت إمبراطورة حمصية على عرش "روما".

مادام "سبتموس" حصل على هذا الكنز من ذكاء وجمال، فلا عجب أن يحصل على عرش "روما" يوماً ما

نشأت "جوليا دومنا" وترعرعت في "حمص" وأخذت تعليمها وثقافتها الرفيعة، متذوقة للفنون على اختلاف أنواعها، وكلمة "دومنا" تحريف للكلمة السورية "مارتا" والتي تعني السيدة...

جوليا دومنا

بدأت القصة حقاً عندما تعرف قائد الشرق "سبتيموس سفيروس" إلى رئيس كهنة "حمص"- والد "جوليا"- ووقع نظره عليها، أعجب بجمالها وزاد إعجاباً بها لما تحدث إليها، وانكشف لـه ذكاؤها، فخطبها إلى والدها.

ويحكى أن والدها قال لـه: «لهذه الفتاة ما ليس لغيرها من حقوق، فهي قادرة أن تختار الذي يعجبها وقد بلغت العشرين، وأترك الأمر لاختيارها»، ‏أجاب "سبتيموس": «هذا ما أحب أن يكون فاسألها أن تقول كلمتها». دخل الكاهن على "جوليا" في خدرها فوجد بين يديها قماشة تطرزها برسوم، وقد كتبت عليها أول حرف من اسم "سبتيم"، فقالت "جوليا" لوالدها: «أدركت، ولا أتجاهل أن القائد "سبتيموس" عندنا، هذا أرسلته "عشتار" عبر المغيب يوم صرت من بنات ربيع الحياة».

جوليا دومنا مع زوجها وطفليها

في العام 187م احتفلت "حمص" وسائر الجوار بعرس قلما شهدت مثله الربوع، وهكذا تزوجت "جوليا دومنا" فكانت أقرب إلى "سبتيموس" من نفسه.. انتقلت "جوليا" مع زوجها إلى قصر بناه في "بيروت" وجمع فيه أهل الفلسفة والشريعة وأهل الهندسة، وكانت زوجة القائد تحتفي بهم وتتحدث إليهم بعلمهم وفنونهم حتى سحر "أولمبيان" الصوري بمواهبها الفعلية وقال: «مادام "سبتموس" حصل على هذا الكنز من ذكاء وجمال، فلا عجب أن يحصل على عرش "روما" يوماً ما». ‏وهذا ما حصل فعلاً... أصبح زوجها "سبتيموس" إمبراطوراً على "روما" عام 211م، وبنى قصراً على هضبة "البالاتين".

رافقت "جوليا" زوجها في انتصاراته وفي حكمه فمنحتها "روما" العديد من الألقاب: "كأم القياصرة، وأم المعسكرات، وأم الوطن، وأم مجلس الشيوخ" كما أطلق عليها لقب "دومينا" ومعناه (السيدة البالغة الجلال).

لكونها الزوجة السورية لإمبراطور "روما"، فقد فتحت أبواب قصرها للسوريين الذين وفدوا إليها كعلماء ومفكرين وفلاسفة ورجال دين واستعانت "جوليا" بعدد منهم، أمثال قريبها الفقيه "بابيان" ثم "أولبيان" و"ديوجين" كاتب التراجم و"ديو كاشيوس" المؤرخ و"فيلو سترات" السفسطائي. وباستقدام "جوليا دومنا" لهؤلاء العلماء السوريين أخذت الأفكار الشرقية تظهر في "روما"، وشيئاً فشيئاً امتد النفوذ السوري إلى السياسة، فاحتل الكثير من السوريين المناصب الهامة في "روما"، وكانت البداية في مجلس الشيوخ ثم منصب رئيس الوزراء وأعضاء مجلس الحكام والوزراء، ومناصب الجيش.

أما بالنسبة للمجلس الاستشاري الذي أحدثته "جوليا" لمساعدة الإمبراطور، فقد ضم العلماء والفلاسفة والأدباء من سائر المناطق الشرقية والعربية، استدعتهم الأميرة لتعيينهم بمناصب الدولة التي أصبحت وقفاً على السوريين في الإمبراطورية، وهكذا أصبح القصر ملتقى للمناظرات والمحاضرات يضم كل المشاهير، ومن كل علم وفن.

أنجبت "جوليا" ولدين هما "أنطونيوس" و"جيتا" وقد شاركا أباهما الحكم كأباطرة، وبعد وفاة زوجها دفعت الغيرة الابن "أنطونيوس" إلى قتل أخيه غدراً. كان الابن المغدور في حضرة والدته التي حاولت الدفاع عنه فأخفقت وتقطعت أصابعها من سيوف الجند الذين أحضرهم "أنطونيوس" لاغتيال أخيه. وبدأت حقيقة مأساة هذه السيدة المفجوعة بموت زوجها وابنها ، لكن لم تستطع إلا أن تساعد ابنها "أنطونيوس" والذي لقب "بكركلا"، في حكمه الموروث غدراً..

سرعان ما بدأت اللعنة والكراهية تنصبان على "كركلا"، ليس فقط لأنه قاتل أخيه كما سماه الشعب، بل أيضاً بسبب تماديه في الحقد وارتكاب حوادث القتل ولاسيما ضد أنصار أخيه. وحاولت "جوليا دومنا" التدخل لتحد من تصرفات ابنها الطائشة وخاصة عندما قرر غزو الشرق تشبهاً بـ "الاسكندر المقدوني" فانتقل إلى "أنطاكية" وعهد لوالدته تصريف أمور الحكم، واعتبرها أمينة سره تستلم الرسائل وتجيب عليها، وكذلك تستقبل رجال الدولة.

أخيرا قتل "كركلا" بخطة مدبرة، وتم نفي "جوليا" إلى "أنطاكية".

لم يكن "لجوليا" أن تحتمل موت زوجها وابنيها، إضافة إلى إصابتها بسرطان الصدر، ما أضاف آلاما إلى آلامها، ورغم ذلك حاولت النسيان متوعدة بالانتقام من قاتل ولدها الذي أدرك ما تريد وهو بسبب خشيته وضعفه أمام ما قد تدبر له، وعندما فشل بأساليبه المهذبة في التعامل معها، أرسل شرذمة من جنوده لإلقاء القبض عليها وإرجاعها إلى "حمص"، مدينتها الأصلية.

رفضت "جوليا" الذهاب، فحاصرها الضابط المبعوث دون أن يتجاسر على اقتحام غرفتها، ولأنها رفضت كل ما قدم إليها من طعام أو شراب، اعتراها النحول وخيبة الأمل، فماتت وكانت في الخامسة والأربعين من عمرها..

دفنت بادئ الأمر في "أنطاكية" بعد أن حرقت جثتها، لكن شقيقتها التي تدربت على يدها "جوليا ماسيا" وبعد أن استلمت السلطة، أمرت بنبش القبر ونقلت قارورة الرماد التي تحمل جثتها، وكذلك قارورة تحمل رماد جسم ولدها المغدور "جيتا" لتدفنهما في المقبرة الإمبراطورية للانطوائيين..

هكذا كانت "جوليا دومنا" السيدة الحمصية ذات الجلالة الإمبراطورية، البارعة الجمال، العبقرية المتوقدة الذكاء، كانت مثال الأم والزوجة.. مثال القائدة والصابرة... بحق، كانت مثال الملكة السورية.

(17/7/2008).