"ما يجي المغرب حتى ننزل كومة، لأنو الحصاد قطعة من جهنم"، قبل أن يُمّيز الكلب من الذئب كما يقولون اعتاد الحاصدون الذهاب إلى الزرع مستغلِّين طراوة الصباح، وسقوط الندى فيقف "الجاويش أو الطارود" ليوزع "الأمَّانات" بين الحاصدين..

و"الأمَّان" هو المسافة الفاصلة بين خطي حراثة و"الجاويش" هو أمهر الحاصدين لذلك يطلق عليه تسمية "الطارود أو القيدوم "، "على الراس ميّة باردة مشروبة الطواردة""روح عنّا يا طارود والشدّة وراك تنود."

وما أن يستقيم العمل ويتم توزيع "الأمّانات" حتى ينطلق عادة الحداء.

"ارحل عنّا يا زرع إجاك المنجل يفرع فرع، أنا خيّال المنجل والمنجل خيال الزرع "

والمنجل يستخدم لحصد القمح أمّا الشعير والعدس والكمون فيحصد بالكف خاصة في المناطق الرملية الجافة."

الحاج سرحان من مواليد /1928/م يتحدث عن الحصاد في الماضي بحنين وبحسرة، وربما لسان قلبه يقول:"ليت الشباب يعود يوماً": كان موسم الحصاد يستمر ثلاثة أشهر فبعد حصاد الزرع الذي يستمر لشهر تقريبا، نقوم بجمع الأغمار ونضعها في مكان لنقلها إلى البيدر، ودراستها وتذريتها، وكانت الأغاني تسليتنا الوحيدة: عقب الحصيد غمارة يا عيشة العزارة

والدراسة تكون بالحيلان الذي يجره عادة الحمار أوالبغل فيدور بالحيلان حول الزرع المكوم، والكومة تدعى "شكارة" وفوق الحيلان يركب شخص أو شخصان من أجل زيادة الوزن وبالتالي التسريع من عملية الدرس، وهذا العمل قد يستمر لشهرين حيث تأتي بعد ذلك عملية الغربلة وفرز التبن عن الحبوب التي توضع في "جوالات" وتنقل بعربات خشبية يجرها "حمار أو بغل" .

المنجل المستخدم لحصاد القمح

الحاج سرحان ورغم اعترافه بصعوبة الحصاد قائلاً:"ما يجي المغرب حتى ننزل كومة ، لأنو الحصاد قطعة من جهنم" إلا أنه يقسم أن تلك الأيام كانت مليئة بالبركة، وكان الناس أكثر سعادة من هذه الأيام فقد كانت القرية عائلة واحدة تتساعد في كل شيء وخاصة في موسم الحصاد،

ذاكرة الحاج سرحان القوية لم تخنه بأن يسترجع الكثير من الأغاني التي كانت تقال أثناء الحصاد

"على العين يا أم الزلف زلفى ياعيني

يشرب حصانك ضفر هالعكر الميّة"

وحين يرى الحصّاد رفوف العصافير تسقط لتلتقط الحبوب ينشد:

زرعي كلاه القيقي والقنبر العتيقِ

لقد كان المغيب مفرحاً للحصّادين ومزعجاً لصاحب الزرع الذي لسان حاله يقول:

" هبهبو يا هبهبو وجه الحلّة ما أصعبو"

والحلّة تعني الانصراف عن الحصاد.

وإذا ما قدم صاحب الزرع ممتطياً دابته، وقد أحضر للحصّادين طعام الغداء، يطلب من الحصّادين أن ينظّفوا الزرع، وألاّ يتركوا شيئاً منه مهما رقّ.

"يا معلّم لا تخاف ما حصيد إلاّ نظاف

وقد تشارك بنت صاحب الزرع في الحصاد، ولكنّها مترفة لا تستطيع مواصلة الحصاد حين تستعر الرمضاء، فتسرع إلى ظلّ شجرة وتتمدّد، فينشد: "بنت المعلّم طاحت تمدّدت وارتاحت"

وما أن ينصرف المعلم مصطحباً ابنته حتّى يحدو المغنّي ليعبّر عن حقد دفين لربّ العمل، وقد يكون من باب التندّر:

يا معلّمي دستورك قبل العصا ما تزورك

لأقطع عصاية خضرا وأنزل على عرعورك

ويروي الحاج قصّة طريفة عن أحد الحاصدين " أحد الحواصيد" أومى بيده مشيراً للشمس أن تسرع في الغياب فانتبه لحركات يده صاحبُ الزرع الأمر الذي أغضبه وراح بدوره يومي للشمس بأن تبقى مكانها.

ويتابع الحاج سرحان عن العمل والطعام قائلاً: لقد كان الإفطار من التمر واللبن يقدّم بعد أن تشرق الشمس مباشرة.

أما طعام الغداء فقد كان دائماً "لبنية قمح أو برغل ولبن"

"لحديلك حدّوية عالبدوي والبدوية

والبدوي قتل مرتو عـ شرقة لبنية"

"ان كان غداكم سيّالة اطووا المناجل ورافقوا الخيالة"

يتابع الحاج سرحان عن حاصد يشرح لصاحب الزرع مغنياً أن مهنته ليست في الحصاد ولكن الدهر أجبره على هذا العمل

" يامعلم حاصود ماني حاصود وهادا الدهر وازاني.

يا معلم دونك زرعك ويلعن أبو الأمَّاني"

موسم الحصاد هو موسم الخير لكل الناس لكنّ الحاصد يتذمر من التعب المقبل عليه

" جانا الحصاد مسيّر مقرود يالحاصودي"

ولايفوت الحاج سرحان الحديث عن حالات عشق كثيرة تقع في هذا الموسم فإحدى العاشقات تنادي معشوقها وقت اشتداد الحر:

" حاصود زت المنجل حميت عليك الشوبة

لذكرلك ظلّ البارد بين النهد والتوبة"

وأحد الحاصدين يراقب محبوبته بعشق فما أن تبتسم له حتى تنطلق قريحته بالغناء:

"يا ويلي ويلي منها وأكثر غياري منهاـ

ضحكت وبيّن سنها أم العيون الدابلي

يا ويلي ويلي ما يطيب جرح إلي بقلبي ما يطيب

يا ربي تكتب النصيب بأم العيون الدابلي"

لقد كان الفقر والإقطاع والبدو الذين كانوا يفرضون الجزية على أهل القرى في منطقة معرة النعمان، وعلى المدينة أحياناً وهذا ما ذكره سليم الجندي في كتابه تاريخ معرة النعمان فربما لأنّ كل هؤلاء كانوا حلفاء ضد الحاصد الفقير تقف إحداهن تشكو قائلة:

" مضيت عمري وأنا حاصود مشكلي والسعد جافي

خبز شعير في الطبق مرجود والنفس ما تقبلو حافي".

أخيراً ورغم التعب والعناء، فهذا موسم عطاء وخير، يستفيد منه "الملاّك والحصّاد"، ويروى أن صرصوراً أتى إلى نملة ليقترض منها حبوباً ليأكل وصحبه في فصل الشتاء، فسألته: أين كنتم أيّام "الحصايد؟ قال: كنّا ننشد قصايد، قالت: عليكم بالشقوق يا علوق" أي عندما فاتكم موسم الحصاد وجمع الحبوب، فعليكم بشقوق الأرض فإنّها ملأى بالحبوب المتساقطة، ومن يومها اتخذت الصراصير من شقوق الأرض الطينيّة مساكن لها، وهذه موعظة للإنسان ليجمع قوته لسنته، فبساط الصيف واسع.