هو السواد الذي تراكم لمدة مئة عام خلت، وقد مضت تلك الأيام، وهي تصبغ يوماً بعد يوم جدران المحلّ وأرضيته بيدي أبي عمر اللتين تحركان أجهزة المدافئ وقبلها "بوابير الكاز واللكسات" التي كانت تضيء بيوت الأغنياء أول ظهورها. مئة عام مضت، وقد تناوبت يدي أبي عمر ويدي والده وجده..

حتى صار المحل من أشهر محلات "معرة النعمان"، وهو المعروف بتسمياته "محل المبيّض، أو محل مصلح الصوبيات" يقول "أبو عمر" في حديثه مع موقع eIdleb الذي التقاه بتاريخ 1/12/2008م: «خمسون عاماً مرّت وأنا في هذا المحل أمارس مهنة إصلاح المدافئ، وتبييض النحاس، وقد عملت مع والدي في هذا المحل الذي ورثه عن جدي، وكان عمري لا يتجاوز العشرة أعوام كنّا نصلّح (اللكسات) التي تعمل على "الكاز والسبيرتو"، ونبيض الأواني النحاسية التي كانت أساس كل بيت على خلاف هذه الأيام بعد دخول الأواني الزجاجية والكروم وغير ذلك مما جعل النحاس (عزيزاً) ونادر الوجود ويقتصر على الزينة فقط».

إنه كثيراً ما نصحت جاري بأن يبدّل عمله فمصلحته لم تعد تكفي، وهو صاحب أسرة كبيرة لكنه يرفض بحجة أنه لا يجيد سوى هذا العمل

"أبو عمر" أو الحاج "أحمد عمر الدبيبي" من مواليد "معرة النعمان" /1950م/ متزوج ولديه تسعة أبناء كانت كلّ العوائل في "معرة النعمان" تحتاجه إمّا لتبيض نحاسها أو لإصلاح (اللكس) أو إصلاح المدفأة، فكان عمله يدرّ دخلاً جيداً أمّا اليوم فإنّ ما يدرّه هذا العمل أجاب عنه بجملة واحدة: «قوت لا يموت، لكنّ الرزق مقسوم»، وقد جلس مع ولديه "عمر" و"عبد الحكيم" اللذين يعملان لمدة شهر مع والدهم فينظفون أجهزة المدافئ من (شحّارها) ويقومون بفتح الثقوب، ريثما يفتح الله على "عمر" ويعود إلى عمله سائقاً لباص "هوب هوب" يعمل بين "دمشق" و"معرة النعمان"، أما "عبد الحكيم" فينتقل للعمل في محل سوبر ماركت عند أحدهم.

"أبوعمر" الذي شرح لنا كيفية إصلاح المدافئ بشهية للكلام، وكأنه ينتظر من يسأله عن حاله وعن عمله منذ زمن، لم يخف حنينه للماضي، ولأناسه الذين رحلوا تاركين هذا السوق الذي يعود إلى عشرات السنين. النجار العربي "أحمد بلاني" أبو رزوق جار "أبي عمر" قال لنا: «إنه كثيراً ما نصحت جاري بأن يبدّل عمله فمصلحته لم تعد تكفي، وهو صاحب أسرة كبيرة لكنه يرفض بحجة أنه لا يجيد سوى هذا العمل»، وحين سألنا "أحمد بلاني" إنّ كانت النجارة العربية تدرّ دخلاً جيداً، ابتسم هازاً برأسه.

بقي أن نشير إلى أنّ أبا عمر كغيره في هذا السوق الذي يقع جنوب الجامع الكبير في "معرة النعمان" ممن يصرّون على العمل في مهن تكاد تكون شبه منقرضة، ولم تعد تكفي لسد قوت أسرهم كصناعة "جلالات الحمير، وبيوت الشعر، والدلاء البلاستيكية، وغيرها" وهم في أعماق سريرتهم مقتنعون بأن الرزق المقسوم، لا يزداد أو ينقص بتغير العمل».