«لم تكن حادثة اكتشاف مملكة "إيبلا" أمراً اعتيادياً بالنسبة لعالم الآثار الإيطالي "باولو ماتييه" الذي قضى أربع سنوات من عمره في سورية يبحث عن تلك المملكة المفقودة في التاريخ والتي لم يتعرف عليها أحد بعد. وفي نهاية السنوات الأربع، وفي اليوم الذي أبلغت فيه الحكومة الإيطالية العالم "ماتييه" عن انتهاء فترة عمله في التنقيب في سورية، وبينما كان يحزم أمتعته استعداداً للعودة إلى إيطاليا بعد فترة طويلة من البحث الممل وقع رقم فخاري بين يديه أعاد إليه بريقاً من الأمل كاد أن يتلاشى من عينيه.

وما أن شرع يخط رسالته إلى سفارته معلماً إياها بهذا الحدث العظيم حتى تتالت الاكتشافات وظهرت الألواح والرقم الفخارية بالعشرات ثم بالمئات لتصبح آلافاً فيما بعد كاشفةً النقاب عن أضخم الاكتشافات الأثرية التي عرفها تاريخ العالم حتى اليوم وليرتبط اسم "ماتييه" بسورية على مدى أربعين عاماً متواصلة».

اكتشاف المملكة كان في العام /1964/ واستطاع "ماتييه" عام /1968/ أن يجد فيها مع مجموعته التنقيبية تمثالاً للإله "عشتار" يحمل اسم ملك "إيبلا" "إيبت ليم"، هذه المملكة التي عرفت سابقاً في نصوص السومريين والأكاديين وقدماء المصريين كانت أعظم مفاجأة فيها عام /1975/ عندما اكتشف /15000/ لوح فخاري قادت إلى تحديث تقرير التنقيب الذي كان ضئيلاً ومملاً من قبل، ليصبح واعداً بمعلومات مذهلة عن هذه المنطقة الغنية من العالم، وكم كان مؤسفاً للفريق الايطالي أن لايجد في العام/1976/ سوى /1600/ لوح فخاري فقط عرف من إحداها أن مدينة "إيبلا" كان يقطنها /260/ ألف نسمة

هكذا بدأ الباحث "محمد الخالد" خريج قسم الآثار والذي عمل لموسمين ماضيين مع البعثة الإيطالية التي تتبنى عمليات التنقيب في "إيبلا" حديثه لموقع eIdleb. وحول سؤالنا عن بداية الاكتشاف أجاب قائلاً: «اكتشاف المملكة كان في العام /1964/ واستطاع "ماتييه" عام /1968/ أن يجد فيها مع مجموعته التنقيبية تمثالاً للإله "عشتار" يحمل اسم ملك "إيبلا" "إيبت ليم"، هذه المملكة التي عرفت سابقاً في نصوص السومريين والأكاديين وقدماء المصريين كانت أعظم مفاجأة فيها عام /1975/ عندما اكتشف /15000/ لوح فخاري قادت إلى تحديث تقرير التنقيب الذي كان ضئيلاً ومملاً من قبل، ليصبح واعداً بمعلومات مذهلة عن هذه المنطقة الغنية من العالم، وكم كان مؤسفاً للفريق الايطالي أن لايجد في العام/1976/ سوى /1600/ لوح فخاري فقط عرف من إحداها أن مدينة "إيبلا" كان يقطنها /260/ ألف نسمة».

الباحث محمد الخالد

  • إذاً تُعتبر المكتبة الملكية أهم مكتشفات "إيبلا" وكنوزها على الإطلاق، كم بلغ العدد النهائي للرقم المعثور عليها، وماذا تناولت هذه الرقم؟
  • ** لقد عُرف الآن أن الألواح الفخارية المكتشفة، والتي بلغت /17000/ لوح، ليست جميعها من الأرشيف الملكي العام، بل هي عبارة عن سجلات مجموعة ومحفوظة قرب المحكمة المركزية. وقد حوت هذه الألواح العديد من الأسماء الشخصية، كما أمكن في نص واحد التعرف إلى أسماء مواقع جغرافية يفوق عددها /260/ موقعاً، ووجد في نصوص أخرى قوائم تدل على الحيوانات والأسماك والطيور والمهن وأسماء الموظفين في تلك المملكة.

    مشهد تخيلي لمكتبة إيبلا

    كذلك احتوى العديد من الألواح على نصوص تاريخية يمكن ربطها بسجلات أخرى كتلك المتعلقة بمدينة "ماريك" والتي تعود إلى زمن "نارام سين" 2259-2223 ق.م الذي هاجم منطقة "إيبلا" بقوة، ويبدو أن المدينة قد تم الدفاع عنها من قبل المرتزقة بدلاً من أن يدافع عنها جيشها، وهذا ما يفسر سبب تغلب "آكاد" على "إيبلا"، كما تدل الألواح على أقدم الأجيال التي عاشت في المدينة والتي تعود إلى حوالي /2300/ ق.م.

    وأضاف "الخالد" حول ما حوته الرقم والألواح: «كانت عقائد "إيبلا" وآلهتها تتوسط مفهوم الإله "أنليل" و"أنكي" في "أكاد" مع الإله "إيل" في "كنعان". وتبدو هذه العقائد متقاربة تتجه نحو التوحيد، فلقد حفلت أسماء شخصيات "إيبلا" بإضافة اسم "إيل" في آخرها، ما يدل على سعي للتقرب من هذا الإله وتلمس حمايته، ومع ذلك فإن بعض الآلهة كانت مشتركة في المنطقة كلها، مثل الإله "دجن".

    رقم إيبلاوية

    كما احتوت النصوص الأدبية أيضاً على خلفيات عقائدية ترتبط بمجموعة من الآلهة عرف بعضها في المرحلة المتأخرة من التراث البابلي ومنها "إنكي" إله المياه السفلية العذبة وإله الذكاء والخلق ومهارة الصنع، و"انليل" سيد مجمع الآلهة، و"اوتو" إله الشمس السومري،و "إنانا" إلهة الحب والخصب، إضافة إلى "تيماموت"- "مردوخ" و"نادو" وغيرهم. كما أن إله مدينة "كيش" التي تقع إلى الشمال الشرقي من "بابل" مذكور فيها».‏

  • وماذا عن اللغة التي كُتبت بها تلك الرقم والألواح؟
  • ** لقد أوضحت الوثائق أن لغة "إيبلا" كانت واحدة من اللهجات التي يمكن وضعها تحت التسمية العربية، وإن كانت تكتب بالخط المسماري السومري مثل لهجة "أكاد"، وإن لهجة "إيبلا" تقف في منتصف الفارق بين لهجتي "أكاد" و"كنعان" على الساحل السوري، وقد قسمت قوائم المفردات فيها إلى لغتين أساسيتين أمكن التنقل بينهما عبر نصوص قواعدية محكمة، حيث حوت بعض النصوص مالا يقل عن /114/ مفردة إيبلاوية-سومرية، وهذه سابقة في الاكتشاف لا مثيل لها في التاريخ، كما احتوى بعض الألواح مفردات تضم تقريباً حوالي /1000/ كلمة مترجمة تملك أكثر من 18 مرادفاً.‏

    *هل توضح تاريخ "إيبلا" السياسي وعلاقتها بالدول والحضارات التي كانت قائمة آنذاك من خلال المكتبة؟

    ** لعل الرقيم الكبير 24-21سم الذي عثر عليه في القصر والذي ينص على معاهدة بين ملك "إيبلا" وملك آخر يعتقد أنه ملك "أبار سال"، هو أقدم أثر لمعاهدة تكشف عن ذهنية سياسية وحربية متقدمة تفرض شروطاً والتزامات، وتعطي "إيبلا" حق التصرف بمقدرات السكان والممتلكات في "أبار سال"، تحت ضغط وسلطان إله الشمس وإله الطقس اللذين سيقومان بإنزال أشد العقوبات على سكان "أبار سال" في حال مخالفة شروط المعاهدة.

    إن مفهوم المعاهدة والحلف الذي نقرؤه في الألواح الطينية يتمثل بوضوح في النحت الرائع المنقوش بارزاً على حوض يعود إلى عام /1800/ ق.م، وعليه يبدو مجموعة من الرجال يتصافحون ويتعاهدون على حلف أو معاهدة لا ندري مع من تم الاتفاق عليها، وفي الوجه الآخر للحوض تماثيل آلهة لعلها آلهة "إيبلا" التي مثلت لتحمي هذا التحالف، ولقد عثر على هذا الحوض في معبد "إيبلا" الواقع في سهل المدينة، وهو محفوظ في متحف "حلب"، وأصبح من المعروف الآن أن هذه الألواح المكتشفة أكثر بأربع مرات على الأقل من أية مجموعة ألواح عرفت قبلها تعود إلى المرحلة ذاتها التي تقع مابين عام (2400-2250) ق.م، وأقرب الشبه يعود إلى ما اكتشف في مملكة "ماري" على الرغم من أن الأخيرة متأخرة أكثر من عدة مئات من السنوات بعدها.

    وعن ملوك "إيبلا" ونظامها السياسي أضاف الباحث "الخالد": «يتميز ملك "إيبلا" باللقب السومري "إن" ووفقاً لقائمة المفردات المماثلة للكنعانية القديمة فهو يسمى (ملك) كما يطلق لقب (أبو) المشابه للغة العربية وباقي اللغات المحلية السائدة في المنطقة والتي تعني الأب.‏ وكان النظام السياسي في "إيبلا" قائماً على الأمن والتوسع للسيطرة على التجارة في المنطقة من خلال تحقيق وحدة سياسية، وكان الملك يقف على رأس هذا النظام، وكان للملكة والشيوخ نفوذ مساعد، ويقوم ولي العهد الابن البكر بمهام السفارة أو يقوم بحكم بعض المناطق النائية، أو يتولى الشؤون الداخلية وحفظ النظام. وتذكر وثائق "إيبلا"أسماء ستة ملوك، وفي الحقبة التي حكم فيها آخرهم، كانت مدينة "ماري" خاضعة لـ"إيبلا" وتدفع لها الجزية التي وصلت إلى 2193 ميناً من الفضة و134 ميناً من الذهب، أي حوالي 1052كغ من الفضة و5،64 كغ من الذهب.

    أما ما يميز آخر ملوك "إيبلا" "أبي سيبش" الذي هو حفيد الملك "إبراهيم" أنه خرق نظام الانتخابات الملكي التي حددت مدة الحكم في مملكة "إيبلا" بسبع سنوات ومدد فترة حكمه بحجة الأوضاع المتقلقلة التي كانت تمر بها البلاد وقتها حيث حكم" إيبلا" قبله الملك "إيغيش حلم" تلاه "إركاب دامو" فـ"آرإينوم" تلاه "إبراهيم" فـ"إيبيت ليم".‏

    فكما هو واضح ذكرت "إيبلا" التاريخية بشكل خاص كمركز عسكري سياسي له تأثير تجاري مذكور في النصوص الأكادية /2300/ ق.م، وورد في "إيمار" التي هي "مسكنة" اليوم عام 1400 ق.م، كما ورد ذكرها في سجلات "تحوتمس" الثالث ووضعت على جدران "معبد الكرنك" في مصر وفي نصوص "الحثيين" التي وجدت في "أناضوليا". ‏

  • هل تصف لنا المملكة بشكلها الراهن والتاريخي، وماذا أضافت لتاريخ العالم الذي كان قبل اكتشاف "إيبلا"؟
  • ** هذه المملكة بقيت أسطورة حتى بعد أن ظهرت إلى الوجود قرب "تل مرديخ" بأبعاد تفوق /60/ هكتاراً، واكتشف فيها آثار أبنية عامة وسور محيط وقصور ومعابد تحمل النمط العمراني لـ"إيبلا"، كما توجد فيها صخور بيضاء تعود إلى العمارة الشكلية السائدة في التلال القريبة في المنطقة والتي تدل على ترابط هذه المملكة مع مناطق جبال "طوروس" في الشمال وحدود نهر الفرات الخالد في الشرق وصولاً إلى "حماة" في الجنوب، وهذا ما أعطى المملكة اسمها (إيبلا ½ الصخرة البيضاء).

    وتحتل المدينة السفلى ما يقارب /45/ هكتاراً وكانت محوطة بسور عال من الطين والحجارة ولها بوابات أربع تصلها بأرباع المدينة العائدة للعصر البرونزي، والتي كان يقدر عدد سكانها بعشرات الآلاف، وواحدة من هذه البوابات لا تزال تُرى بخطوطها الحجرية السوداء والبيضاء والتي تعود للعصر البرونزي الأوسط.‏

    يتوسط المكان كله التل أو المعبد المتوج ببقايا القصور والبنى الإدارية المميزة عن غيرها، وقد زينت أبنية القصر البرونزي الأحواض البازلتية بواجهاتها الجميلة المنحوتة بأشكال مختلفة والتي لها تأثير متنوع مأخوذ من مملكتي" كركميش" وقبرص، وهناك يوجد المعبد الذي يحوي تمثال "عشتار" وألواحاً تدل على الملك "إيبت ليم"، وهذه المنطقة تعود إلى العصر البرونزي المبكر (2400-2300ق.م) كذلك زينت درجات المعبد بالفسيفساء المرصوف على الألواح الخشبية التي يمكن مشاهدتها في منطقة التنقيب.

    وكما تدل اكتشافات البعثة الإيطالية من جامعة "روما لوسابينا" التي يقودها "باولو ماتييه" بأن "إيبلا" قد وصلت قمة مجدها كعاصمة لأغنى طريق تجاري في المنطقة في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وأظهرت الألواح المكتشفة في "إيبلا" والتي كتبت باللغة السامية التي عرفت باسم اللغة (الإيبلية) تغييراً كبيراً في أكثر ما عرف سابقاً عن البنية المدنية في مدن الألف الثالث قرب التوسع العموري في تلك الفترة حيث كانت "إيبلا" مملكة مستقلة لها حضورها ودورها المميز في المنطقة ولاسيما بالنسبة للمملكة "يمحاض" والتي عاصمتها "حلب". ‏

    وأضاف "الخالد" قائلا: «لقد أظهرت نصوص "إيمار" و"أوغاريت" من الألف الرابع والسابع، وأرشيف "ماري" مع ما اكتشف في "إيبلا" عظمة الصورة الحية للمشهد الدولي المتميز الذي تمتعت به الحضارة السورية المحلية في ذلك الوقت حيث ظهرت ممالك عدة مستقلة فيما بينها إلا أنها كانت تمارس علاقات سياسية وتجارية مع جيرانها في الشمال والشرق والجنوب لم تؤثر إطلاقاً على استقلالها الإداري وتميزها الحضاري الذي بدأ يفهم من جديد في النصف الأخير من القرن العشرين». ‏