«المطر يضرب بقوة شبابيكنا القديمة، فيؤرق نومنا العميق ولكن كنا نستمتع به حينما نسمعه ونراه يهدب سطح بيتنا القديم الذي كان يطل بشرفاته وسطحه على بلاطات مرفأ "اللاذقية" خلال فترات بنائه الأولى حيث كنا نراه جيداً وأمواج السماء تلتحم مع أمواج بحره المتلاطمة».

هكذا بدأ العم "يوسف عبدو" "أبو منصور" حديثه مع موقع elatakia وهو صاحب الثلاث والستين سنة من عمره، والعامل منذ صغره بأقدم سوق في اللاذقية "سوق المقبي" حيث عمل في مجال الأقمشة مع والده...

ما بقي يجمع الشتاء ولم يخفيه تقدم الزمن هو تلك الرهبة والإحساس الغامض بالسعادة التي يولدها هطول المطر على شبابيك بيوتنا، وما يغسله في نفوسنا من تعب يوم مضى وانتظار يوم قادم

موقع elatakia استطلع آراء من عاشوا شتاء "اللاذقية" قديماً واختار عينة من كبار السن ليكونوا شاهدين على ذلك الزمان وخصوصيته.

العم ابو منصور

فعند الحديث عن المطر والشتاء فالمشهد لا يكتمل بدون الموقد أو المدفأة، ويبقى للشتاء حديث خاص يحكي ضمن دقائقه الطويلة أجمل بطولات القدماء ونوادرهم، وعندها يترك للمخيلة الزمانية مهمة إدارة الحوار.

يقول "العم أبو منصور" متحدثاً:

البحر والجبل وغاباته في مشهد شتوي

«القديم بات مشهد من مشاهد فيلم سينمائي تتناوب فقراته يوم بعد يوم، فمدفئة الحطب القديمة هي المنتشرة آنذاك في أغلب بيوت سكان اللاذقية، ولم يكن يملك مدافئ المازوت سوى قلة قليلة من الناس».

أما المفارقة اليوم كما يقول "أبو منصور" أن «الجميع يملك مدافئ المازوت وقلة منهم من يتدفأ بالمكيفات الكهربائية الحديثة، والفئة الأقل هي الميسورة الحال والتي تملك مواقد الحطب أو ما يسمى "الشيمنيه" وتعتمدها كوسيلة للتدفئة والديكور في آن واحد على عكس الزمن الماضي».

مدفأة.

أما عن ليل الشتاء يتابع "أبو منصور": «كنا نعيش ليل الشتاء الطويل المفعم بساعات المسامرة والزيارات والسهرات الجميلة، على الرغم من أن الناس ينامون باكراً وسط مناخ بارد وأدوات بسيطة تعلن انتهاء كل يوم لتجعل الناس يلجؤون إلى النوم».

«أما هذه الأيام فالتلفاز والكثير من الأدوات والإمكانات الحديثة أغنت الناس حتى عن الأحاديث ومتعتها، وتركت للأفلام والمسلسلات نسج القصص والروايات التي ترسم الليالي الشتوية كما تشعر بها حين فقدانها».

شاهد ثان يحدثنا عن غروبات الزمن الماضي وروعة لياليه الشتوية حيث تقول السيدة "نوال داود" "أم محمود":«كان مصباح الكاز هو الوسيلة الوحيدة للرؤية في الليل الحالك الظلمة خلال الشتاء وداخل المنازل، ولم يكن يضيء ليل الخارج سوى اللمع والبرق والأعاصير الهوجاء، أما اليوم فقد حلت الكهرباء لتضيء الليل حسب تطورات الزمن وتقلبات أحداثه».

تتابع "أم محمود": «ما بقي يجمع الشتاء ولم يخفيه تقدم الزمن هو تلك الرهبة والإحساس الغامض بالسعادة التي يولدها هطول المطر على شبابيك بيوتنا، وما يغسله في نفوسنا من تعب يوم مضى وانتظار يوم قادم».

"العرجوم" أو ما يسميه اللاذقانيون بالدق والذي يستخلص من خلاصة عصر الزيتون خلال موسمه، حيث يستعمل "العرجوم" ضمن منقل يجمع بداخله حبيبات "العرجوم" وتشعل أطرافها لتستمر بالاشتعال تباعاً، ولكن ببطئ شديد وهذه العادة أو الحالة القديمة الموروثة ما زالت إلى اليوم تستخدم في أغلب منازل "اللاذقية" حيث تقول "أم خليل" متحدثة عن "العرجوم":«منقل الدق، لا يفارقنا ربما لشكله الباعث دوماً للدفء وربما لأنه أنيس مهم لسهرات العائلة على الرغم من توفر كل طرق التدفئة إلا أن تقليد هذا النوع من التدفئة مازال موجود ومتبع في منزلنا، فسعره بسيط جداً ولكنه ربما يؤدي في بعض الأماكن إلى الاختناق لذا يجب تهوية المكان الموجود فيه منقل الدق أو "العرجوم" كل فترة كي يختنق الجو الموجود ضمنه».

اختلفت طرق التدفئة وسهرات الناس باختلاف الأشخاص والزمان وكذلك المكان، ولكن الحكاية الشتوية ظلت كما هي إحساس جميل بهطول المطر وسماع أصوات حباته وهي تزور الأرض المغبرة، وأحاديث لا تفيد إلا بكونها تذكر الحاضر بما كان عليه ماضيهم أملاً منها بأن تنفع الذكرى لاسترجاع ما غاب اليوم عن واقعهم.