رجل كان يدور شوارع "اللاذقية" بعربته الزرقاء التي تصطف بداخلها رفوف صواني النمورة المحمرة الوجه تراه يزين بها وبفوانيسها القديمة زوايا الأماكن وأبواب الحدائق ومداخل الأزقة القديمة وفي أرجاء الأسواق والساحات.

شعبية هذا الرجل فاقت كل التصورات وانتظاره من قبل عشاقه بات بحكم العادة والاعتياد مشهداً يومياً لا بد منه، ولهذا أصبح لهذا الرجل أكثر من خمس عربات أخرى يعمل عليها أولاده وأولاد أخيه كفروع معتمدة لشيخ الكار، هذه الفروع زادت من اتساع رقعة شعبية هذا الرجل وما تصنعه يداه وخصوصاً أنه تخصص في نوع واحد من الحلويات الأكثر شعبية في "اللاذقية" وهي النمورة.

ما زلت أعمل على العربة لأني أعتبرها كالرئة التي أتنفس منها وهي تراث يذكرني بكفاح أبي الذي أعتبره مثلي الأعلى وحتى يظل هو سعيد بوجود عربته التي تحكي حكاية كل قطرة عرق نبيل ذرفها يوماً ما من أجلنا

بطل حكايتنا هو "كامل ريحان" الملقب بـ"أبو سمير" وخلال أكثر من ستين عاما مضت، وهو شيخ لطريقة فنية مميزة يلاحظها كل من تذوق نمورته.

فارس ريحان

في حادثة طريفة، ضحك الحظ لأحد أولاده بوقوف دواليب اليانصيب على رقم بطاقته لتكون رابحة لنصف الجائزة الكبرى، ولتكون نقطة تحول في حياة "أبو سمير" الذي كان يحلم منذ زمن بأن يبني مسجداً في مكان إقامته في محيط "اللاذقية" وهذا ما تحقق له فعلا.

eLatakia زار أحد فروع عائلة "ريحان" الخاص ببيع النمورة والتقى السيد "فارس ريحان" ابن اخ "ابو سمير"، ليحدثنا عن السيرة الكاملة لهذه العائلة فقال: «البدايات الأولى لمهنتنا من عمي "كامل ريحان" الملقب بـ(أبو سمير)، كان يعمل في صناعة النمورة من عمر العشرين عندما قام بصناعة عربة صغيرة زرقاء وكان يصنع النمورة بطريقة خاصة محببة للناس وتطور عمله أكثر وظل على هذه العربة خمسا وثلاثين سنة، بعد ذلك تعلمت العائلة هذه المهنة من "أبو سمير" وصار كل منا يملك عربة زرقاء حصراً وكل العائلة صنعت عربات زرقاء مشابهة لعربة "أبو سمير"، ووصل عددها إلى ست عربات.

مكسيم ريحان

هذه العربات كانت مصدر رزق لأكثر من عشرين نسمة، وصار لكل منا معمله الخاص للبيع على عربته وبعد فترة عشر سنوات ربح ابن "أبو سمير" الجائزة الكبرى في اليانصيب، ورغم هذا ظللنا محافظين على مهنتنا رغم ربح الجائزة الكبرى لأن مهنتها صارت من تراث العائلة وبعد الجائزة قام عمي بافتتاح دكان خاص بالنمورة والحلويات ونحن أحد فروعه، طبعاً مع المحافظة على النمورة كمادة أساسية في كل محل».

يضيف "فارس": «سر طعم النمورة باق عندنا نحن بيت "ريحان"، وللنمورة اسم آخر فمثلاً في "دمشق" تسمى هريسة، وهي مطلوبة صيفاً وشتاء لكن الإقبال عليها في الشتاء أكثر لأن الحلويات في هذا الفصل لها نكهة خاصة، ويوجد لدينا الآن فكرة لترويجها إلى محلات أخرى».

عمار ريحان ابن ابو سمير، وعربته الزرقاء

وعن كيفية طبخ النمورة قال "فارس": «أولاً تطبخ خلطة النمورة المكونة من السميد والماء وبعض الإضافات، ونقوم بتخميرها يوم كامل، بعد فترة التخمير نقوم بشوائها بالفرن، كما نقوم بوضع مكسرات على وجهها مثل الكاجو والفستق الحلبي والجوز، وسعر النمورة رخيص جدا بالنسبة لباقي الحلويات».

وأضاف "مكسيم ريحان" على حديث أخيه "فارس": «كان عمي "أبو سمير" يجر عربة النمورة من حي الرمل الشمالي إلى نهاية مرفأ "اللاذقية" أي ما يعادل 15 كم ذهاباً وإياباً فهو رجل مكافح أحب مهنته وأعطته هي أكثر مما كان يحلم وتابع بها حتى بعد أن ربح ولده ورقة اليانصيب، عمي علمني هذه المهنة وصنعت عربة زرقاء مثله، وصرت أتجول بها في النهار ما يقارب عشرين كيلو مترا من مركز المدينة إلى الشاطئ الأزرق، وكنا في البداية نقوم بخبز النمورة في فرن خبز حجري ننتظر الليل فنخبز النمورة بعد إطفائه على حرارة الفرن المتبقية، وما زلنا حتى الآن نحتفظ بالعربات وهي دليل على كفاحنا وذكرى لأولادنا من بعدنا».

السيد "عمار ريحان" الذي ما زال محافظاً على تراث أبيه ببيعه النمورة على العربة الزرقاء ذاتها ليقول: «ما زلت أعمل على العربة لأني أعتبرها كالرئة التي أتنفس منها وهي تراث يذكرني بكفاح أبي الذي أعتبره مثلي الأعلى وحتى يظل هو سعيد بوجود عربته التي تحكي حكاية كل قطرة عرق نبيل ذرفها يوماً ما من أجلنا».

ولتبقى بقية العربات الزرقاء ملونة لشوارع "اللاذقية" ولتحكي حكاية مختلفة، حكاية الكفاح النبيل الذي تجسد برجل تجول بعربته، ومن ثم أولاده وأقاربه ومن ثم محلات والأفرع الكثيرة التي ملأت "اللاذقية".