سيدة اجتازت السبعين من العمر تمتلك ذاكرةً حديدية وأنامل ذهبية صممت أجمل الألبسة الصوفية التي ارتداها أبناء وبنات قريتها الجبلية، تفخر بأنها تحررت من كل القيود وقادت مشروعها الخاص لأكثر من أربعين عاماً، وهي لا تزال مستمرة فيه حتى يومنا هذا.

إنها السيدة "أمينة صبوح" أو كما تسمى في القرية "خياطة بيت ياشوط" والتي استقبلتنا بتاريخ "19/3/2011" بصدرها الرحب وكلامها المتزن وحدثتنا عن بداياتها مع "ماكينة الصوف" وصولاً إلى أيامنا هذه، حيث قالت:

تمتلك خياطة قريتنا ذاكرةً حديدية تجمع في خلاياها قصص القرية وحكاياتها وذكريات من عاصرتهم وعرفتهم، وهي بشكل يومي تزور جيرانها وتتناول قهوة الصباح معهم وتحدثهم ويستمعون لها بإنصات سواء أكانوا ذكوراً أم إناثاً

«تعلمت مهنة الخياطة في سن العشرين على يد سيدة من "دمشق" تعمل في محافظة "الحسكة" كان ذلك خلال زيارتي لشقيقتي المقيمة هناك، وخلال فترة قصيرة تعلمت كيف أصمم "بلوزة" وبعدها "القبة" ومن ثم "العراوي"، فاشتريت ماكينة "تريكو" وعدت إلى اللاذقية للعمل فيها حيث كان يقيم أخي، وهناك زادت خبرتي ومعرفتي بالمهنة وأصبحت أخيط (السترات، الجاكيتات، القبعات، الجرابات، الفيزونات، بناطلين الصوف، وألبسة الأطفال).

وبعد فترة بسيطة عدت إلى قريتي "بيت ياشوط" وبدأت العمل فيها، وأمضيت في المهنة حوالي "50" عاماً لم أستخدم خلالها سوى آلتين فقط واحدة اشتريتها في الستينيات وأخرى في الثمانينيات وكان ثمنها \1900\ ليرة سورية، ومازلت أعمل عليها حتى الآن».

السيدة "أمينة" حدثتنا عن عملها وطريقتها بالتصميم قائلة: «أستخدم الأسلوب التقليدي لكن من دون أدوات القياس، في البداية أرفع الإبر وأصنع اسوارة الكم من المطاط باتجاهين، ومن ثم أنتقل إلى السادة أو ما يعرف بالوجه الواحد فقط، وهكذا يتغير الأسلوب بحسب القطعة المراد تصميمها.

خلال مسيرتي صنعت ملء دكاني قطعاً من الصوف، وأكثر الأشياء التي كنت أبيعها كانت "الجاكيت" أما أكثر الموديلات انتشاراً فقد كانت "جاكارات ملون" كتف منخفض مع بعض الحركات التي تدخله، إضافة إلى موديل "الريكلان"، أما أكثر الألوان شيوعاً فقد كان ولا يزال اللون الأسود..

وبالنسبة لأجمل قطعة صممتها فهي "جاكيت" لون أبيض صنعته منذ حوالي عشرين عاماً ومازلت أحتفظ به إلى يومنا هذا رغم كل عروض شرائه من الزبائن».

"خياطة بيت ياشوط" أرادت أن تورّث ما تعلمته لبعض فتيات القرية إلا أنها لم تستطع وسبب ذلك هو حسب قولها: «هذه المهنة تحتاج إلى صبر وتفرغ شبه تام لها، والخياطة تستطيع أن تصمم كل يوم "جاكيتاً" على أقل تقدير، لكن الفتيات اللواتي أردن التعلم لدي لم يستطعن الصبر على هذه المهنة، وحدها فتاة هي التي ورثتني وحفظت أصول المهنة ومن ثم انتقلت للعمل بمفردها».

السيدة "صبوح" وهبت حياتها للعمل وهي تشعر بالفخر والاعتزاز لما قدمته، وتقول: «لم أتزوج طوال حياتي وكانت آلتي رفيقة دربي أعمل عليها دون كلل أو ملل، أجرب أتعلم أخطئ وأعيد المهم ألا أذهب إلى منزلي وأجلس دون فائدة.

وأنا اليوم سعيدة جداً بسجلي وبما أنجزته خلال فترة عملي الطويلة فأينما نظرت حولي أجد شخصاً يرتدي قطعة من تصميمي أو شخصاً صممت له قطعة في الماضي، إلا أن الإقبال على ارتداء الصوف في هذه الأيام تراجع كثيراً واقتصر على ألبسة الأطفال وكبار السن فقط بينما لا يلتفت الشبان إلى هذه الألبسة.

ومع ذلك فهذا لا يزعجني فقد كبرت في السن ودخلي يكفيني ويزيد، ورغم كل التحولات التي طرأت على المجتمع إلا أنني كنت وما أزال أرتدي ثيابي من صنع يدي ولا يعجبني تصميم أحد».

الحديث مع سيدة مثل "أمينة صبوح" لابد أن يتطرق إلى الذكريات وظروف الحياة في الماضي، وهي تقول عن تلك الأيام: «من وجهة نظري لم تكن الحياة صعبة في الماضي إلا على الذين لا يرضون بنعمهم لذلك فإنني أمضيت حياةً سعيدة كلها عمل وعطاء، وأكبر مبلغ جمعته في حياتي هو محبة الناس.

طفولتي عشتها في القرية إلى جانب إخوة أربعة كنت الصغيرة بينهم وعندما فتحت المدارس ذهبت إلى المدرسة في اليوم الأول وفي الثاني قالت لي أمي لا تذهبي فإذا ذهبت من سيعينني على عمل المنزل فأطعتها وحرمت من التعليم وتفرغت لعمل المنزل، وهكذا نقلت الحطب وجلبت المياه من مسافات بعيدة من أجل بناء منزلنا الترابي، فالمرأة في أيام زمان تضاهي عشر نساء من بنات اليوم، وأنا التي بلغت من العمر الكثير أعمل أكثر مما تعمل فتاة في العشرين من العمر».

المكان الذي تتواجد فيه السيدة "صبوح" يتحول إلى خيمة حكواتي يحكى فيها قصص الآباء والأجداد، وعن ذلك تحدثنا السيدة "سوسن حجي" من "بيت ياشوط" وتقول: «تمتلك خياطة قريتنا ذاكرةً حديدية تجمع في خلاياها قصص القرية وحكاياتها وذكريات من عاصرتهم وعرفتهم، وهي بشكل يومي تزور جيرانها وتتناول قهوة الصباح معهم وتحدثهم ويستمعون لها بإنصات سواء أكانوا ذكوراً أم إناثاً».

فيما تقول "رؤى وسوف" وهي صاحبة مكتبة القرية: «الحديث عن السيدة "أمينة" أمر مهم جداً لأنها امرأة تغلبت على الواقع واستقلت عن الرجل وعاشت حياتها دون الحاجة له، وأثبتت أن المرأة هي نصف المجتمع بحق وهي قادرة على لعب الدور المناط بها بطريقة إيجابية وجيدة، كما أنها دليل واضح على تحرر المرأة الريفية والوعي الذي يمتلكه أهل الريف تجاه المرأة ودورها».

أما السيد "رواد حسنة" فيقول: «لا يوجد طفل في هذه القرية إلا وارتدى من تصميم هذه السيدة التي استطاعت رغم بعدها عن مركز المدينة أن تطور أساليبها وتصمم ألبسة تتناسب مع كل حقبة زمنية "عالموضة"، وأنا من الذين ارتدوا من تصميمها وفخورٌ جداً بأنها من قريتي كما أعتقد أن معظم أهالي القرية يكنون لها خالص الاحترام والود، وكبار القرية مازالوا يرتدون من تصميمها حتى يومنا هذا».

كما يقول السيد "محمود سعيد": «القطعة التي كانت تصممها "أمينة" كانت مميزة جداً ومتينة، وأنا كغيري من أهل القرية ارتديت من تصميمها في كل مراحل حياتي طفلاً وشاباً وكهلاً، وعلى الرغم من تراجع مستوى إنتاجها إلا أنها لاتزال تضاهي بصناعتها تلك الملبوسات الصوفية التي نشتريها جاهزة من الأسواق وقد تتفوق عليها أحياناً من ناحية الجودة وطريقة التصميم».