استخدم أهل "الرقة" قديماً، ومازالوا يستخدمون كلمة بيت الْشَعَرْ للإشارة والتفريق عن كلمة المسكن المشيد من مادة الحجر، وأحياناً للتفريق عن المسكن الفاخر كأن يكون قصراً على سبيل المثال.. وأهل "الرقة" ومنذ هجرتهم الأولى إلى منطقة "الرقة" في بداية القرن السادس عشر الميلادي قادمين من منطقة "نصيبين" وشمال غرب العراق، كانوا عرباً رُحّل ينتجعون الأراضي القريبة والبعيدة، بحثاً عن مساقط الماء والكلأ لحيواناتهم المكونة من الشاة والماعز والخيل، وقليلاً من الإبل والحمير، التي كانت تشكل الواسطة الرئيسة للرحيل والترحال، هذا من جهة ومن جهة أخرى كان أهل "الرقة" يتألفون من أسر وأفخاذ وعشائر تنتمي إلى قبائل عربية كبيرة أغلبها توزعت وانتشرت في أنحاء الوطن العربي منذ آلاف السنين.. ونحن عندما نشير إلى الحلقة الأصغر عند هذه البنية السكانية التي هي الأسرة، فإنما نشير إلى الوحدة الاجتماعية سواءً كان أهلها من العرب الرحل (رعاة الماشية)، أو من الزراع أنصاف الحضر أو الحضر أنفسهم.. أم الديار، وبدو عنزة يسمونها الدار، فتعني اجتماع أكثر من خمسة بيوت على الرحيل سوياً إلى جهة معينة، والمكوث في مكان واحد لمدة زمنية معينة، حيث تستمر هذه التسمية طيلة فترة المكوث سوياً. وعند عرب "الجزيرة"، ومنهم أهل "الرقة" تكون البيوت متجاورة، ففلان جار لجاره، وعند البدو يكون كل بيت بمثابة القصير للبيت الذي يجاوره، وهذا الوضع سواءً عند عرب "الزور" أو عند البدو، يعني تجاوز كل ما عداه من روابط الدم وصلات القرابة، إذ نجد أنّ الجار يدافع عن جاره ضد أي تدخل أو اعتداء، حتى ولو كان من أقرب الناس إليه.. وهنا يضرب العرب الرحل مثلاً طيباً في احترامهم لعميلة تكوين الديار أو الدار.. وبالسؤال لأحد المعمرين من أهل "الرقة"، عن أهمية صلة أواصر الدم في عملية تكوين الدار أو الديار، أجاب: «لا علاقة لهذا الأمر في عملية التكوين هذه، بل إنّ الروابط الزوجية تعتبر العنصر الأهم لحدوث هذا التجمع، والمثل الشائع عند أهل "الرقة" يقول "كن نسيباً ولا تكن قريباً"، لذلك وحتى وقت قريب كنا نلاحظ أنه عندما يجتمع مربو الماشية على الرحيل بحثاً عن الكلأ، نرى الأغلبية من الرجال يسعون لجمع بيوتهم مع بيوت أنسبائهم للرحيل والمكوث في نزل واحد أو دار واحدة. وعلى الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، فإن كل بيت في هذا النزل يتمتع بالاستقلالية التامة، لكن في سنوات القحط العجاف نجد أنّه يتم تقسيم الرعي على البيوت، ليهتم كل بيت بحيواناته.

أشكال بيوت الْشَعَرْ: عرف العرب الخيمة العربية منذ القِدمْ، وكان لهذه الخيمة أشكال عديدة، فمنها الخص أي البيت ذو العمود الواحد، وهناك "المقورن" ذو العمودين في الوسط، ثم المثولث والمروبع والمخومس ثم المسوبع حتى الحادي عشر، أي البيت الذي يقوم على أحد عشر عموداً في الوسط، والغريب في الأمر أنّ العرب لم يعرفوا البيت "المسودس" الذي يرتفع بستة أعمدة، وقد توجهت بسؤال لأحد المعمرين في "الرقة" قبل أكثر من ثلاثين عاماً عن هذا الأمر، فأجابني بأنّ الأمر يتعلق بنجمة داوود السداسية؟!. لكنني شخصياً أعتقد أنّ الأمر يتعلق بالناحية الإنشائية، فالبيت بدأ بعمود واحد وانتهى بالرقم أحد عشر، فلابد من أن تكون الأعمدة الواقعة على اليمين وعلى اليسار متساوية. كان النزل أو الدار الذي يضم مجموعة من البيوت في الأغلب، يتكون من طبقة متقاربة في نمط حياتها الاجتماعية والاقتصادية، وكانت الزيارات بين الرجال تتم من بيت إلى آخر خلال النهار، وفي الليل يسهر الرجال مع بعضهم البعض، حيث يشربون القهوة والشاي إن وجد، لأنّ القهوة كانت متوفرة عند أهل "الرقة" في البرية، بينما نجدها تقل عند أهل الحضر في بداية القرن، بينما يكثر عندهم الشاي.

كان كل بيت في النزل يشار إليه باسم الرجل الأكبر سناً مثل بيت آل "الهويدي" أو "العجيلي" وهكذا.. وقد يقول قائل أنّ الأمور الاقتصادية، قد تلعب دوراً مهماً في عملية تشكيل النزل، إلاَّ أنّ الحقيقة غير ذلك، إذ أنّ الصدف هي التي تقرر مثل هذا الأمر.

بدويات يصنعن بيت الشعر

كيف تصنع الخيمة العربية، وما هي أقسامها الداخلية؟ في العادة عند البدو تقوم المرأة ربة المنزل مع بناتها وزوجات أبنائها بحياكة البيت العربي من شعر الماعز، أما عند عرب الجزيرة ومنهم أهل "الرقة"، باستثناء البدو، فإنّ الرجال هم الذين يقومون بخياطة (شقاق البيت) بعد شرائها وهي مصنوعة من شعر الماعز، وتتم هذه الخياطة ضمن احتفالية أشبه بما نسميه اليوم بالافتتاحية، ورغم أنّ الرجال عند أهل البدو هم الذين يقومون بشراء لوازم صنع البيت العربي، إلا أنّ البيت عندهم يظل ملك المرأة، لكن عند أهل "الرقة" هو ملك للرجل على الرغم من أنّ حياكته ظلت تشكل أهم عمل بالنسبة للنساء. ومن أهم ألاقسام التي يتكون منها البيت هي: الرواق، وهو مصنوع ومنسوج من مادة شعر الماعز المحاكة والمغزولة يدوياً، وهذا الرواق يلف ويستر كامل البيت مهما كانت مقاساته، يليه الزرب، ويصنع من مادة نبات الزل، ووظيفته هي الفصل بين قسمي الرجال والنساء، وكذلك قسم الأواني المنزلية، وهناك الأعمدة التي يُرفع بها البيت من الداخل والطرايج والحبال (المرس)، والأوتاد التي يُربط بها الحبال، وكذلك (الأخلة) الحديدية التي يثبت بها الرواق بالبيت من جهاته الأربعة، والخيمة العربية عند البدو تعتبر من مسؤولية المرأة وحدها، أما عند أهل "الرقة" فهي من مسؤولية الرجال، حيث هم الذين يقومون بفكها وربطها وترميمها ونصبها عند النزول، ومن الناحية الاجتماعية ما من رجل أعزب لوحده كان يعيش في بيت لوحده دون امرأة، أما الأرملة والمرأة المطلقة فكانت تعيش بمفردها مع أبنائها وبناتها.

في الربيع يهاجر أهل "الرقة" من الجنوب باتجاه الشمال، حيث تكثر المراعي، وكانت بيوت النزل تنصب بمواجهة الجنوب طلباً للدفء، أما في فصل الصيف، فكانت تنصب باتجاه الشمال طلباً للبرودة، وحسب الوضعين الاقتصادي والاجتماعي لصاحب البيت يتحدد تقسيمه، فإن كان غنياً، فهو يملك بيتاً كبيراً لأنه على الأرجح يكون متزوجاً من امرأتين وربما أكثر، وفي هذه الحالة يقسم (بيت الشعر) إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول دائماً يكون من الجهة الغربية، ويشكل أكثر من ربع البيت، وهو القسم الوحيد الذي يقترب منه الرجال عند أهل البدو، أما عند عرب "الرقة" فالأمر يكون مختلفاً كلياً، كما يشهد هذا القسم جميع نشاطات وتحركات الرجال سواءً عند عرب "الرقة"، أو البدو على السواء.. أما القسم الآخر من البيت فيكون مخصصاً للنساء، وهو مجزأ من الداخل بواسطة (الزرب) إلى جزأين أو أكثر، حيث يُتاح لكل زوجة وحدة زوجية يكون بمثابة مكانها الخاص داخل (بيت الشعر)، تمضي فيه الليلة مع زوجها وأطفالها، أما الأطفال البالغين والشباب اليافعين، فهم ينامون في القسم المخصص للرجال، وفي الزاوية الشرقية من (بيت الشعر) يقع الموقد المعد للطبخ ومكان الأواني المنزلية، وفي حالة ركود الطقس تطبخ المرأة طعامها وتخبز خبزها في العراء الطلق، وهذه عادة مشرقية قديمة، ويقع الموقد الخاص بتحضير القهوة للرجال قبالة القسم المخصص لهم. وفي الغالب تضم (بيوت الشعر) أكثر من وحدة زوجية واحدة، بمعنى أنه عادة يوجد في البيت الواحد جيلين أو ثلاثة أجيال من الذكور (الجد والأب والابن)، وفي حالة زواج الابن، فيختار البقاء في بيت أبيه، أو يبني بيتاً خاصاً به، وقد يحصل على نصيبه من القطعان، وفي العادة نجد أنّ الابن ينصب بيته بطريقة تتقاطع فيها أوتاد بيته مع أوتاد بيت أبيه، مما يشير إلى الدلالة على استمرار وحدة البيت الواحد. ومما تجدر الإشارة إليه، فإنّ بعض الأبناء عندما يتزوجون يأتون بزوجاتهم للعيش في بيت أبيهم، ولا يؤسسون بيوتاً جديدة إلا في حالة وجود خلل كبير يحدث في بيت الأب.

إعداد القهوة العربية

تتميز ثقافة المجتمع الرعوي بشكل عام بالاهتمام بالفلكلور الشعبي (الغناء، الرقصات الشعبية)، والكرم والضيافة من أهم ما كان يتميز به أهل "الرقة" ريفاً ومدينة، وذلك حسب الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وبسبب الفروقات في نمط العيش يظل هناك تباين في هذه الحالة، ولكن يتساوى الجميع نسبياً بكرم الضيافة، مما يدل على أنّ الجميع يتمتعون بقدر واحد من الحرية والاستقلالية ضمن ثقافة المجتمع الرقي آنذاك في البيت العربي الرقي. ويظل هذا البيت يشكل تناقضاً مع الحياة العامة القاسية، كون داخله ينفتح على هدوء السماء، ويزينه العنصر الأنثوي الممثل بالمياه، وإنّ اسم (بيت الشعر العربي) يعني السكن، الذي يعني المنزل المرتبط بكلمة سكينة التي تعني أصلاً السلام والهدوء والسكينة.

  • مدير متحف "الرقة" السابق، ورئيس جمعية العاديات، عمل بمجال التنقيب الأثري مع عدد من البعثات الوطنية والأجنبية، وله عدد من البحوث والدراسات في مجال الآثار، وتاريخ "الرقة"، ووادي الفرات.
  • بيت شعر في البادية